من ركائز الديمقراطية الغربية أن يحتفظ الجيش بحياده، وأن يكون مثل بقية مؤسسات الدولة في التبعية لسلطة مدنية منتخبة، ولذا اعتبر الاتحاد الأوروبي أن ابتعاد الجيش عن السياسة واحد من الشروط التي يجب أن يفي بها من ينضمون لعضوية الاتحاد. ولكن هل تعتقد أن هذا الشرط يلائم التربة السياسية لدينا؟ حتى وإن لم يكن ملائماً، يجب أن تجعله الثورة كذلك. نحن في منطقة كان العسكر هم المحرك الأساسي للتحولات السياسية فيها، ومعظم الثورات، أو الانقلابات، أو حركات الاستقلال تمت من خلال تشكيلات عسكرية، ويكاد ينطبق الأمر على معظم حركات التحرر في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، ولذا كان الجيش في كثير من الدول النامية (بما في ذلك مصر) من ركائز شرعية السلطة، وعماد استمرارها، وأداة تغييرها، وكان الجيش هو الملاذ الدائم للدولة في مواجهة الأزمات التي يمكن أن تعصف بالنظام فيها، حدث ذلك في أزمة الأمن المركزي في مصر عام 1986 ثم في ثورة 25 يناير 2010. كما حدث في الجزائر عام 1992 وغير ذلك كثير. إلا أن التحولات الديمقراطية التي شهدها العالم جعلت تدخل العسكر في السياسة أمراً غير مستساغ، حتى في الأنظمة التي كان الجيش فيها هو المورد الوحيد للنخب الحاكمة، ففي السبعينيات كان عدد الدول التي تجرى فيها انتخابات لا يتجاوز 25 دولة، أما الآن فيمكن حصر الدول التي لا تجرى فيها انتخابات، مثل كوبا، وكوريا الشمالية، والصين، والمملكة السعودية، بالإضافة إلى أن كثيراً من الديكتاتوريات العسكرية التي تصدرت المشهد (كما كان في إسبانيا وتركيا) قد أفلت وحلت محلها أنظمة مدنية منتخبة، وأصبح معظم قادة العالم ابتداء من التسعينيات من غير ذوي الرتب. كذلك كان انحسار الحروب في العالم مع نهاية القرن العشرين عاملاً آخر أثر على تصدر العسكر للمشهد، وما يتبع ذلك من شرعية استثنائية توفرها الطوارئ وزمن الحرب، فقد أصبح التبادل التجاري والتداخل في المصالح هو لغة العولمة التي تقتضي توقيع المعاهدات الدولية، وتنظيم انتقال السلع والخدمات عبر الحدود، وهي لغة يحييها السلم وتميتها الحروب، كما أنها بالتأكيد لغة لا يجيدها العسكريون، ومن ثم لم يعد الزمن زمنهم. وفي مصر يواجه المجلس العسكري إشكالية الاحتفاظ بالسلطة مع تسليمها في وقت معاً، ووفقاً للتجربة التاريخية فإن العسكر إذا وصلوا إلى الحكم فإنهم إما يظلون قابضين عليه، أو ممثلين للنخبة التي يأتي الحاكم منها، أو يستصدرون التشريعات التي تضمن للجيش استقلاله وقدرته على التدخل في الحياة السياسية، وربما الرقابة عليها، ولذلك ظل الجيش هو المؤسسة الأكثر تنظيماً، والأكثر نفوذاً واستقلالاً في مصر منذ ثورة 1952. ولذا تقبل الناس بترحاب الجيش مهميناً على الأمور بعد مبارك، ولكنهم كانوا طوال الوقت متحسبين لمحاولة المجلس العسكري البقاء في الحكم وعسكرته إما بقوة الأمر الواقع أو بتشريعات دستورية دائمة. وزادت هذه الهواجس مع ما تضمنته وثيقة السلمي التي أصلت لاستقلال الجيش عن سلطة ورقابة الدولة، وتحول الأمر في النهاية إلى تصادم الثوار مع المجلس العسكري، وتصاعد المطالب بإسقاطه، وتشكيل مجلس رئاسة مدني. بل كانت هناك مطالب أكثر راديكالية داعية إلى محاكمة أعضاء المجلس. إذا كان فقه الواقع والمصالح يقتضي أن يستمر المجلس العسكري في أداء مهمته الانتقالية حتى تسليم السلطة إلى من ينتخبه الناس، فإن فقه الأولويات يقتضي الضغط على المجلس العسكري حتى لا ينحرف عن هذه المهمة، فحن نريد أن نتحدث لغة العصر، نريد أن نتحول إلى دولة منتجة، وجاذبة للاستثمار، وغنية بفرص العمل والعمالة المدربة، وهي لغة لا تهتم بالأيديولوجيات، والرتب العسكرية، كما أنها لغة لا تزدهر إلا بأنظمة تطبق القانون وتفصل بين السلطات، وحتى يحدث هذا التحول الاقتصادي لابد من أن يسبقه تحول سياسي مدني حقيقي، لا دور فيه للجيش إلا الدفاع عن الوطن. ويجب أن تستمر الثورة في هذا الاتجاه، ويجب أن يدرك المجلس العسكري أنه لا يجب أن يفعل سوى هذا. عندما قررت الصين التحول إلى اقتصاد السوق عام 1978 وقف "دينج زياو بنج" في الاجتماع السنوي للحزب الشيوعي الحاكم قائلاً: "ليس مهماً أن يكون القط ذا لون أبيض أو أسود، فطالما أنه قادر على اصطياد الفئران فهو قط صالح." يريد أن يقول كفانا نظريات وأيديولوجيات، نريد أن نعمل وحسب. وما إن أتى العام 2005 على الصين إلا وهي تصدر في اليوم الواحد ما صدرته طوال العام 1978...لقد تفرغوا إلى صيد الفئران! أستحلفكم بالله أن يكون هذا هو همكم، دعوا أفكاركم، وخلفياتكم، ورتبكم، واصطادوا لنا كل الفئران الممكنة. ممكن؟