وفديان.. أولهما «باشا» والثاني «دكتور».. من يطالع سيرتهما سيجد نفسه أمام سياسيين من أولياء الله الصالحين. الباشا أحمد حمزة الذي كان وزيراً للتموين مرتين، ثم وزيراً للزراعة قبل يوليو 1952 اختصه الله ليكون أول من أضاء بالكهرباء الحرم النبوي بالمدينةالمنورة.. وسهل له طريق الدخول إلى قبر النبي صلي الله عليه وسلم، ورافقه في هذه الزيارة النورانية- مدير مكتبه آنذاك الدكتور محمد علي شتا- فشاء لهما القدر أن يتلمسا الأرض التي تحتضن أطهر جسد، ويأخذ الدكتور «شتا» حفنة من رمال القبر الطاهر، رش نصفها فوق جثمان والده وأوصي أن تدفن باقي تلك الرمال الطاهرة معه. كان المسجد النبوي الشريف في أول تأسيسه يُضاء بسعف النخيل- حسبما قال محمد السيد الوكيل في كتابه «المسجد النبوي عبر التاريخ»- وظل هكذا حتى قَدِمَ تميم الداري، من فلسطين عام 9ه، فاستبدل ذلك بقناديل تُضاء بالزيت، روى أبو نعيم بسنده إلى أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «أول مَن أسرج في المسجد تميم الداري». وقبل أيام تداول مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي صورة «لمبة» كهربائية وقالوا أنها أول لمبة كهربائية تم تركيبها في الحرم النبوي الشريف عام 1325 هجرية، وهو نفس تاريخ دخول الكهرباء إلى الجزيرة العربية ووفقاً لموقع أمانة منطقة المدينة المنوّرة، كانت المسجد النبوي مضاء ب600 مصباح زيتي، وفي عهد الملك عبدالعزيز آل سعود تمت توسعت المسجد خلال الفترة من 1370- 1375ه، وأُنشئت في هذا العهد محطة خاصّة لإضاءة المسجد النبوي وبلغ عدد المصابيح 2427 مصباحاً.. ولكن إضاءة المسجد ظلت خافتة، حتى أنه يكاد يكون مظلماً، حتى كانت الحادثة الفاصلة على يد الوفدي أحمد باشا حمزة. الحكاية تعود إلى عام 1947عندما توجه الوزير الوفدي أحمد باشا حمزة لأداء مناسك الحج بصحبة مدير مكتبه الدكتور محمد علي شتا.. طافا بالكعبة وسعيا بين الصفا والمروة، ووقفا بعرفات الله، ورميا الجمرات، وبعدها توجها للمدينة المنورة لزيارة قبر الرسول صلي الله عليه وسلم وعندها كانا على موعد عجيب مع القدر. فوجئا بأن المدينةالمنورة منورة بمن فيها وما فيها، ولكنها لم تكن منورة بالكهرباء.. حتي المسجد النبوي الشريف كان بدون إضاءة كهربية، ولا يزال يضاء بمصابيح زيتية. حزن الباشا أحمد حمزة كثيراً.. ولم يحتمل أن يكون ثاني الحرمين، وأطهر مكان في الأرض مظلم وبدون إنارة كافية، فأسر الرجل في نفسه شيئاً، وبدأ تنفيذه فور عودته لمصر. قرر شراء عدد من المحولات الكهربائية والمصابيح والأسلاك الكهربية، وأرسلها على نفقته الخاصة إلى المدينةالمنورة، وكلف مدير مكتبه الدكتور «شتا» باصطحاب عدد من المهندسين، ومرافقة المولدات والمصابيح، وتولي هؤلاء المهندسون تركيب المصابيح وتشغيل المولدات لإضاءة الحرم النبوي، استمرت عملية تركيب المصابيح 4 اشهر كاملة، وبعدها تلألأ المسجد النبوي بنور الكهرباء وأقيم احتفال كبير بإضاءة المسجد النبوي. وفي العام التالي أدي الوزير الوفدي بصحبة مدير مكتبه مناسك الحج، فأحسن أمير المدينةالمنورة استقبالهما، ورافقاهما طوال أيام وجودهما في المدينة، ولما كان ثلاثتهم داخل المسجد النبوي مال علي مدير مكتبه وهمس في أذنه بكلمة. وبعد أن خرج من المسجد، اقترب أمير المدينةالمنورة من الدكتور محمد شتا، وسأله عما همس به «الباشا»، فقال له: كان يحدثني عن أمنيته الكبري. فقال له أمير المدينةالمنورة: وما هي أمنيته الكبري. فرد الدكتور «شتا»: «الباشا» يتمني أن يدخل إلى قبر الرسول. صمت أمير المدينة، وقال معتذراً أنه لا يملك أن يفعل ذلك، ولأن دخول إلى مقصورة الرسول صلي الله علية وسلم يحتاج إلى صدور أمر ملكي. تصور الدكتور «شتا» أن الأمر انتهي عند هذا الحد، ولهذا كانت المفاجأة كبيرة حينما جاءته البشري بعد 24 ساعة فقط بصدور أمر ملكي بالسماح للباشا أحمد حمزة ومدير مكتبة بالدخول إلى مقصورة قبر النبي صلي الله علية وسلم. نقل الدكتور «شتا» البشري الي الباشا أحمد حمزة، فسأله «الباشا»: ممكن ندخل مقصورة قبر النبي إمتي؟ فرد الدكتور «شتا» وهو غارق في بحور السعادة: بكرة يا سعادة «الباشا». صمت «الباشا» وشرد ذهنه للحظات وقال: بكرة مش ممكن. فسأله الدكتور «شتا» مندهشاً: مش ممكن ليه يا «باشا». فرد الوزير: لا يمكن أن ندخل أطهر مكان في الأرض دون أن نكون مستعدين. لم يعلق الدكتور «شتا» على ما قاله الباشا أحمد حمزة، وراح يفكر فيما يقصده «الباشا» بكلمة مستعدين.. وساد الصمت بين الرجلين. وعلى مدي 3 أيام كاملة ظل الباشا أحمد حمزة يتعبد داخل المسجد النبوي.. يصلي ويقرأ القرآن . وبعدها دخل إلي قبر خاتم المرسلين. يروي الدكتور «شتا» في مذكراته هذه اللحظات شديدة الروحانية فيقول «دخلنا قبر الرسول صلي الله عليه وسلم، فاستقبلتنا رائحة زكية شديدة الروعة، وجدنا أرضاً رملية، وشعرت من جلال المكان أنني غير قادر على الكلام، وبعد دقائق من الرهبة، ظللت أتلو ما تيسر لي من آيات القرآن الكريم، والأدعية، ونفس الشيء كان يفعله الباشا أحمد حمزة». واصل «قبل أن نخرج من مقصورة القبر، كبشت بيدي قبضة من رمال القبر ووضعتها في جيبي، ولما خرجنا أصابنا ما يشبه الخرس فلم نقوي علي الكلام إلا بعد حوالي ساعتين». وتابع «الرمال التي أخذتها من قبر الرسول صلي الله عليه وسلم، قسمتها نصفين، الأول وضعت فوق جثمان والدي في قبره، والنصف الثاني أوصيت أبنائي أن يضعوه فوق جثماني داخل القبر». هذه حكاية اثنين من رجال الوفد.. أحمد باشا حمزة الذي ولد في مايو 1891 وتوفي رحمة الله عليه في مايو 1977.. ود. محمد علي شتا، الملقب ب«حكيم الوفد» والذي ولد عام 1922ورحل عن دنيانا رحل عنا في مايو 2003.