احد أصدقائي كان يردد بعد الثورة مقولة ملهمة ( انا شامم ريحة الحرية ) كان يقولها لنا في فرحة عارمة في الأيام الأولي و كنا نحاول ان (نشمشم عليها ) مثله خاصة ان انفه البارز كان يؤكد لنا دائما انه (بيشم كويس) .. كان البعض يتفق معه في انه (شامم فعلا ريحة الحرية) و البعض الأخر و منهم انا (مشمناش حاجه) .. و استمر موضوع الشم معه لفترة و اتصلت به حينما أعلنوا قانون الطوارئ بعد السيناريو الأهبل لاقتحام السفارة الإسرائيلية و تناقشنا في حسرة و سألته (شامم ايه يا كبير؟؟) .. فقال (و الله مزكم يا سامح) .. المهم اتصلت به الاثنين الماضي بعد ان حكمت الادارية العليا بحق الفلول في الترشح لمجلس الشعب و تحسرنا كالمعتاد و سألته (لسه شامم ريحة الحرية ؟؟) فقال (انا فقدت حاسة الشم خلاص انا بقيت أجشم ) .. و الأجشم هو من فقد حاسة الشم فلا هو يعرف رائحة جميلة و لا هو يلقط الرائحة المنيلة بنيلة .. وهو علي ذلك محظوظ لأننا كلنا غارقين في تلك الرائحة المنيلة بنيلة ... رائحة زمان و عفن زمان و انتخابات زمان .. نفس الفساد يعود مع نفس الوجوه بملامحها الجديدة فهناك من زرع لحية او لزق زبيبة و هناك من عاش في دور الثوار و ركب التيار و هناك من رشح ابنه أسوه بالرئيس السابق .. فلا تصدقوا الست ام كلثوم حينما تقول (عاوزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان) ... اهو رجع يا ست .. و العبقري الذي أفتى علينا بان عقارب الساعة لا ترجع للخلف ... لا يا عبقري ...( طلعت بترجع و بترجع اوي و بتكسرنا كل ما بترجع علينا) ... لقد كان خطئنا منذ البداية اننا تهاونا في الكبائر و تلاهينا في الصغائر .. الكل خرج يبحث عن غنائم تحت شعارات فئوية و شخصية و تركنا النظام السابق يلتف علينا كما التف الكفار علي المسلمين في غزوة احد .. صدقنا انتصارنا الكاذب وتركنا الشارع لتمثيلية الانفلات الأمني و مسلسلات البلطجية و أفلام الفتنة الطائفية حتى ضج الناس من الثورة بثوارها و كرهوا الحرية و رائحتها و حنوا الي الاستقرار القديم و لو كان برائحة المقابر ... تركناهم ليغسلوا دماغ الناس بالشائعات و الفضائيات و قصص الأجندات و حكايات العملاء و إفلاس البلاد و اكتفينا بكتابة المذكرات الثورية و الأغاني الوطنية .. قسموا الشارع الي ألف نوع و ألف لون و ألف فكر .. فهذا سلفي و هذا إخواني و هذا فلولي و هذا ليبرالي و هذا علماني و هذا اشتراكي و هذا فكر شبابي و هذا فكر رجالي و هذا فكر نسائي .. و خرج من بيننا لكل فئة الف شيخ وألف متحذلق وألف قائد .. و الكل يزايد علي أفكاره و يرسم البلاد علي مزاجه .. الكل يبحث عن السلطة . عن تلك الفرصة المجانية ليصبح الفرعون الجديد .. رغم ان الفرعون القديم المتمارض يلتف مع رجاله علي الجميع .. لقد أسكرنا الجشع فهزمنا الطمع .. أصبحنا أشبه بالميلشيات العسكرية بعد شهور من اكبر ثورة شعبية ... حتى ميدان التحرير اصبح غريبا و مخيفا لكل من عاشوا و باتوا فيه . فكيف نجتمع الان فيه بالملايين ؟؟ و كم ألف منصة سوف تقام و كم ألف زعيم سيقامر علي أحلام هذا البلد المسكين ...