(عندما اهتزت ثقتى بالأرض، الشىء الثابت اليقينى، اهتزت ثقتى بكل الموجودات) تلك كلمات تعلقت فى عقلى، كما تتعلق أوراق الشجر بالفروع، منذ أن قرأت رواية «أن تحبك جيهان».. وقد جاءت على لسان أحد أبطال الرواية «أحمد الضوى» للكاتب المبدع حكاء وسط البلد «مكاوى سعيد». (لكن متي تهتز بنا الأرض؟ سؤال حاولت الإجابة عنه كثيراً بينى وبين نفسي وأنا أسير في شوارع وسط البلد،بصحبة الشاعر المبدع عماد أبوصالح فى طريقنا إلي مقهى «زهرة البستان» حيث كان «مكاوى» الإنسان والفنان يجلس في انتظارنا. عماد أبوصالح صديق له حيث تلتقي الرواية والشعر، ويختلط معها تاريخ وطن، وكفاح شعب ممزوج ذلك كله بطعم الإنسانية والحرية التي يبحث عنها مكاوي سعيد في رواياته وعماد أبوصالح فى شعره. بعد دقائق انضم إلينا أكثر من صديق، ما بين ناقد ومترجم وطبيب، جميعهم ضيوف دائمون على مائدة إبداع «مكاوى». جلست إليه، وبدأنا الحديث، لكننى بعد دقائق اكتشفت أننى أجلس أمام «شخصية مصر» في الإنسان، التي لا تقل عبقرية عن شخصية مصر عند جمال حمدان التي تحدث فيها عن جغرافيا المكان. وجغرافيا ملامح «مكاوي سعيد» تكشف أو هكذا اتصور عن ملامح مصرية أصيلة، فالوجه به تضاريس أهل الجنوب بكل ما يحمل من صفات، والجسد به جينات الفلاح المصري الذي يزرع الأرض في وسط الدلتا وشمالها، رغم أنه ولد وعاش في حي «جاردن سيتي» في قلب القاهرة و لعب فى شوارع هذا الحي الهادئ، غير أنك تشعر وأنت امامه انه عاش فى حوارى المحروسة أو فى القرى والنجوع اكثر مما عاش فى ذلك الحى. بدأت معه الكلام الذى عدت معه فيه إلي سنوات الطفولة والصبا في هذه السلسلة الحوارية التى تحمل عنوان «اللهم أنى فاكر». أغلق هاتفه، فهو يتعامل بنشاط وإدراك مع تكنولوجيا الهواتف بسهولة، واحتسى ما تبقى أمامه من فنجان القهوة كان هذا قبل الشهر الكريم ثم ابتعد عنا الصديق عماد أبوصالح قليلاً. وأمامه نسخة من ديوانه الاخير الذى يحمل عنوان (كان نائماً عندما قامت الثورة) وملامحه وجهه تسأل.. هل بالفعل قامت ثورة؟ وأن كانت الاجابة بنعم أقول أن كانت فمن منا كان نائماً؟ ومن منا كان متيقظاً.. عدت ببصرى إلى «مكاوى» الذى اعتدل أمامى فى مقعده، حيث عدت معه إلى زمن جميل مضى وذكريات أجمل مازالت عالقة بالذهن. وإلى نص الحوار. فى البداية دعنا نعود إلى زمن فات.. وذكريات الطفولة فى رمضان؟ - كما تعلم أنا نشأت وتربيت فى حى جاردن سيتى. حيث يمتاز الحى خاصة زمان بالهدوء والشوارع التى لا تمر فيها السيارات إلا نادراً. وهذه الميزة أعطت لنا ونحن أطفال حرية اللعب فى الشوارع. وبالتالى كنا فى رمضان نقوم بتنظيم دورات رمضانية بالنهار ونلعب فى الشوارع الجانبية من جاردن سيتى،حيث لا تمر السيارات إلا نادرا. فى الصيام؟ - نعم.. كنا نفعل ذلك ونحن صائمون وفى ظل درجات حرارة مرتفعة مثل الجو الذى نحن عليه الآن. والحقيقة انا كلما تذكرت هذه الايام اندهش.. وأسأل نفسى كيف كنا نفعل ذلك ؟ لكن فيما يبدو كنا شباب له قدرات خاصة.. ثم يضحك الاستاذ مكاوى ويقول: اليوم ما أراه هو دورات رمضانية ليلية. هذا لأن درجات الحرارة اليوم مرتفعة؟ - وأيامنا كانت لا تقل كثيرا فى سخونتها عن اليوم. أنما فى كل رمضان أتذكر هذه الايام وأعود بالذكريات إلى ذلك العصر وهذا الزمن الجميل. لكن هذه الايام بعد الكبر ومغادرة مرحلة الشباب أصبحنا نقيم دورات رمضانية على القهوة ولكن فى الطاولة. هل تكتب فى رمضان؟ - باستثناء المقال فقط. لا اكتب فى رمضان. وعلى ما أذكر كنت فى أحد السنوات قد بدأت فى كتابة رواية، لكن لم أكمل كتابتها إلا بعد الصيام ومن بعدها لم أحاول تكرار التجربة. وماذا فعلت بعد فشل تكرار التجربة؟ - جعلت أيام رمضان للقراءة فقط. حيث أهتم فيها بالتركيز فى القراءة حتى أعوض ما فاتنى من كتب لم استطع قراءتها فى غير رمضان. وأيضا لا اهتم كثيرا بمشاهدة التليفزيون إلا فى الفترات التى أكون امامها فيها لحظة الافطار ولحظة السحور. هل كان للاسرة دور فى تشكيل وجدانك الإبداعى؟ - تستطيع أن تقول أن شقيقى الأكبر كان له دور فى تقريب المسافة بينى وبين القراءة. يعتقد البعض أحيانا أن الأب هوالمحور الرئيسي فى تشكيل الوعى والوجدان منذ الصغر؟ - مسألة الأب مسألة معقدة لأنه من الممكن أن يكون الأب موجوداً فى الحيز الزمنى والمكانى لابن، لكن في لحظات يكون الأقرب هو الأخ الأكبر، خاصة إذا كان الفرق الزمني بينها كبيرا. وهذا ما حدث معى بينى وبين وشقيقى الأكبر. وهل لعب الأخ الأكبر دورا فى حياتك؟ - بكل تأكيد.. الفرق بيني وبين أخي الأكبر كان 10 سنوات حتي أنه كان أكثر سيطرة علي من الأب، فالأب كان بالنسب لي مصدرالحنان خاصة لأن أخى كان متعلما وأبي كان تعليمه محدودا. فأخي الكبير كان هو الذى يأتى إلى المدرسة وبيراقبني. ولو رأنى ألعب في أماكن غير المسموح بها يمنعنى. ولو خرجت مثلا أنا وأصدقائى وبالصدفة يكون خارجا معي وأصدقاءه وأجده فى نفس المكان، كان هذا بالنسبة مفاجئة غير سارة بل تستطيع تقول كارثة. فكنت أرجع على الفور مستنجدا بأبى حتى لا أنال منه أى عقاب. وهل كان يتدخل بينكما أبيك فى هذا الموقف؟ - طبعاً (عند الجد يتدخل) ويقول له دعه وشأنه. فيظل أخى يعدد له عيوب الاصدقاء الذين كانوا فى عندما تقابلت معه فجأة. هذا معناه انه كان من الممكن أن يفرض عليك صداقات محددة؟ - آه.. طبعاً كان بيفرض علي صداقات فكان معروفا مثلا في كل حي أن هناك أطفال أشقياء وبالتالى لا يجب أن تصاحب هؤلاء الأولاد،وعليك إذا أردت أن تصاحب فأمامك أطفال غيرهم يراهم هو أنهم أطفال «كويسين». ومن أين جاء حبك للأدب؟ - سببه كان حب اخى للأدب، لأنه كان يحب القراءة والأدب وبيحب أدب نجيب محفوظ واول مكتبة فى بيتنا كونها هو، فكان ياتى بالكتب الجديدة وكنت أنا أقرأها معه، فجزء من تكويني الأدبي كان سببه الاساسى هو حب أخى للادب والقراءة. إذن قسوته عليك كانت بغرض أن يراك ناجحا ؟ - هذا صحيح.. فدائما كان مهتما أن يجعلني شخصا جيدا. وكنت فى البداية أراها قسوة وشدة فى غير محلها. ولكني اكتشفت فيما بعد انها هي ليست قسوة، بل هى خوفا وحرص على مستقبلى حيث كان هدفه هو ابعاد المخاطر عنى. ومتى تخلصت من سلطته عليك وتحررت من قوته وشدته عليك ؟ - حدث هذا فى المرحلة الثانوية.. فعندما كبرت ووصلت إلى هذه المرحلة، كانت الاسرة وهو قبل الجميع متوقعين لى الرسوب لأننى كنت كثير اللعب وعدم الاكتراث بالمذاكرة. لكن جاءت النتيجة على عكس ما توقعوا هم وحققت نجاحا وتفوقا مذهلا بالنسبة لهم. بعدها بدأ يعاملنى معاملة الاخ الكبير، ثم بدأت انشر اشعارا وقصصا قصيرة فى بعض الصحف والدوريات وهذا جعله يفرح ويترك لى الحرية أن أفعل ما أريد. كبرت بقى؟ - نعم.. وبدأت النشر من مرحلة الثانوى كان في مجلات فنية أو جرايد وكان أهلى سعداء بى جداً خاصة أن أخواتي الكبار لم يستطيعوا أن يفعلوا ما فعلت هذا من وجهة نظر الأهل وهذا وضعنى فى منطقة خصوصية لدى باقى أفراد الاسرة. لدرجة جعلتهم حتى هدية النجاح أصبحت عبارة عن كتب أو روايات. ولدت وتربيت فى حى جاردن سيتى.. كيف كانت أيامه زمان؟ - جاردن سيتى مكان هادئ وكان ويضم كل الطوائف من الباشوات إلى الموظفين, لكن تحول الحى أيام عبدالناصر وجاء إليه ناس غير الناس. لكن على الرغم من التحول الذى حدث فى مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 وأيضاً بعد التحول الثانى الذى حدث مع عصر السادات فيما عرف وقتها بعصر الانفتاح، إلا أن جاردن سيتي ظل محتفظا بتكوينه الراقى، أسرتنا مثلاً جاءت للحى من المنيرة والسيدة زينب فكنا نزل نلعب كورة فى الشارع ونعمل ضجة فى الشوارع والسكان يطلبون البوليس, وأذكر جيدا ان الشوارع كانت نظيفة وفكرة الشوارع النظيفة بتأثر فى الإبداع بمعنى اننى مهما خرجت فى أى مناطق أحب دائما أن أعود إلى جاردن سيتى. يتوقف البعض أمام أسماء فى الأدب تظهر بقوة وان كان ادبها عند البعض أقل من تواجدها على الساحة.. فما تفسيرك لهذا؟ - أنت تقول تظهر وهى هنا تعنى انها ظاهرة تظهر ثم تختفى مع مرور الوقت. ولا أعتقد أن هذه الظواهر الادبية صحيحة أو اصحابها اصحاب ابداع حقيقى. لأن أصحاب الظواهر غير متمكنين في الأدب فدائما ما يكون الأدب لديهم غير حقيقي, فعلي سبيل المثال في الثمانينيات كان هناك فى سنة معينة أدباء قدموا للساحة كتابات كثيرة ولكن فيما بعد اختفوا والأن لا مكان لهم. وهل للأدب عمر أو حياة ممكن تكون طويلة أو قصيرة؟ - طبعاً.. أنت اذا كتبت ما يتواصل ويترك أثرا لدى القارئ.. فأنت بتلك الكتابة تطيل عمرك الأدبى وعمر ما تكتبه. لذلك ممكن أنك تتقابل مع شخص فيذكرك برواية لك من 20 سنة وأن تباع كتبك بصفة دورية كل سنة وبصفة دورية فهذا نجاح يدل على عمق التجربة الإبداعية لديك. لكن هناك من تبيع أعمالهم بأرقام خيالية؟ - أن تباع كتابك بتلك الأرقام فأنت تنسج فخا للقارئ. كيف يكون «فخ» والقارئ هو الذى ذهب وأشترى بنفسه؟ - لأن القارئ يشتري الكتاب بناء علي هذه الضجة التى لا يستحقها العمل الذى طرح فى المكتبات، لكن بعد فترة سيعرف القارئ من القراء أن العمل غير جيد وبالتالى لن يأتى عليك مرة أخرى. وتأكد ان العمل الجيد هو الذى يعيش وما دونه فمصيره النسيان. لماذا ابتعد سنوات عن الكتابة؟ - كانت الظروفى صعبة فأنا كنت اعمل محاسبا فى شركة وأتعامل مع لغة الأرقام «أكل عيش بقى» فكان من الصعب على وقتها أن اكتب خاصة أن مسئولياتك كانت تكبر كل يوم وليس لدى وقت فراغ حتى استطيع أن أكتب فيه.وفي تلك الفترات كنت أركز أكثر فى القراءة وقليلا ما كنت أكتب أو انشغل فى أعمال ابداعية. لدرجة جعلتنى حتى اليوم أحب القراءة أكثر من الكتابة. هل ما لديك عن ثورة يناير خرج لجمهورك ؟ - كعمل إبداعى، لم يحدث بعد. لكننى كتبت عن ال 18 يوما قبل رحيل مبارك كما رأيتها لحظة بلحظة ويوما بيوم ولكن دون تعليق منى على الأحداث, أنا قدمت ما رأيت لدرجة أنى كنت كاتبا عن سلوك الحيوانات أثناء الثورة، أما رأيى السياسى فأكتبه فى المقالات.. ولست فى حاجة لضمه أو طرحه فى عمل أدبى حالياً.