رغم أن هناك تحديات كبيرة تنتظر ليبيا بعد التخلص من أربعة عقود من حكم الديكتاتور معمر القذافي, إلا أن تحذيرات الناتو وأوباما من احتمال وقوعها في الفوضى تبدو مفتعلة خاصة أنه هناك نبرة تفاؤل متصاعدة بأن شعب عمر المختار سيتجاوز أي خلافات محتملة وسيبني دولة قوية وحديثة تحترم القانون وتقوم على أساس العدالة الاجتماعية. صحيح أن السلاح منتشر على نطاق واسع بين الليبيين, كما أنهم مكبلون بالتزامات ثقيلة فيما يتعلق بسداد فاتورة مساعدة الناتو, وتتردد أيضا تقارير حول وجود انشقاقات داخل المجلس الوطني الانتقالي, إلا أن كل هذا لا يبرر ما ذهب إليه البعض من مقارنة ليبيا ما بعد القذافي بعراق ما بعد صدام في ضوء عشر حقائق يأتي على رأسها أن ليبيا تخلصت من حكم ديكتاتور لتبني دولة ديمقراطية حديثة, على عكس العراق الذي وقع في براثن الاحتلال فور سقوط نظام صدام . أيضا, فإنه بالنسبة للمخاوف من حدوث خلافات حادة بين الفصائل المختلفة في مرحلة ما بعد القذافي، فإن سقوط صدام لم يكن مجرد سقوط شخص، كما هو الوضع في حال القذافي، فسقوط الأول خلف حزبا ونظاما شموليا له جذور عميقة في البلاد، ولذا عندما تم التخلي عن الكثيرين من أعضاء حزب البعث في الحالة العراقية، تحولوا إلى عاطلين عن العمل, واندلعت أعمال عنف واسعة . أما بالنسبة لليبيا, فإن الوضع مختلف تماما, حيث لا يوجد فيها نظام حزبي حاكم مثل البعث في العراق، ولذلك فلا خشية على فقدان أنصار القذافي وظائفهم, بل إن الليبيين يمكنهم عند الضرورة استغلال طاقات من سبق أن خدموا في عهد الديكتاتور شرط ألا يكونوا شاركوا في تعذيب أبناء الشعب الليبي أو اقترفوا جرائم خطيرة . وفيما يتعلق بالحقيقة الثالثة, فإن هناك فرقا شاسعا بين وضعي العراق وليبيا يتمثل في أن ليبيا ليست تعاني انقسامات سنية شيعية كما هي الحال في العراق، فالغالبية العظمى من الليبيين مسلمون سنة, وبرغم القبلية, فإن الليبيين متجانسون أيضا في نسيجهم الاجتماعي، ولا توجد بينهم أي اختلافات جوهرية بشأن هوية البلاد، وتلك هي الحقيقة الرابعة. وعلى عكس الحال في العراق أيضا، فإنه لن يتم تفكيك ما بقي من الجيش الليبي، فاعتماد القذافي على المرتزقة الأجانب يدل على أن الجيش لم يكن يحظى بثقة العقيد، فضلا عن الحاجة في الأسابيع الأولى لنجاح الثورة إلى الجيش والشرطة الليبية من أجل حفظ الأمن والنظام وضمان عدم تعرض البلاد للنهب والسلب، وتلك هي الحقيقة الخامسة . وهناك أمر مهم آخر في هذا الصدد ألا وهو أن الحال في ليبيا تعتبر مشجعة جدا، فالثوار يديرون بنغازي منذ أشهر دون أن تقع في الفوضى السياسية أو الاجتماعية، وتلك هي الحقيقة السادسة . ورغم أن البعض يزعم أن التدخل الأجنبي أفقد الثورة الليبية البريق الذي تمتعت به ثورتا مصر وتونس, إلا أن النائب البريطاني مالكولم ريفكايند، الذي سبق أن خدم بلاده وزيرا للدفاع ثم وزيرا للخارجية في الفترة "1992-1997"، أكد في مقال له بصحيفة "التايمز" في 25 أغسطس الماضي أن بعض الناس يولدون أحرارا، وبعضهم يحقق الحرية، وبعضهم تفرض عليهم الحرية فرضا, موضحا أن الناس في الغرب ولدوا أحرارا، وأن الليبيين حققوا الحرية بأنفسهم، أما العراقيون ففرضت عليهم الحرية فرضا, وتلك هي الحقيقة السابعة . وأضاف ريفكايند أن الشعب الليبي انتفض وحرر بنغازي بجهوده الخاصة وقبل أن يصل إليه دعم حلف شمال الأطلسي "الناتو"، كما أنهم سيطروا على طرابلس بجهودهم الخاصة على الأغلب، وهذا يدل على أن الليبيين لن يمروا بتجربة الألم التي مر بها العراقيون في أعقاب الإطاحة بصدام. وبالإضافة إلى ما سبق, شدد ريفكايند على أن غزو العراق لم يؤد إلى تشكيل حكومة جديدة على الفور يكون من شأنها نيل الولاء الشعبي، بل كان على العراقيين مواجهة المأساة الناجمة عن سيطرة الأمريكيين على إدارة البلاد لسنوات, أما ليبيا, فهناك المجلس الوطني الانتقالي وهناك استعدادات لإجراء انتخابات في غضون 8 شهور, وتلك هي الحقيقة الثامنة . وتبقى تصريحات مسئول ملف السياسات في المجلس الانتقالي فتحي البعجة والتي تحدد معالم "ليبيا الحديثة" هي أقوى ضمانة حول المستقبل الواعد الذي ينتظر بلاده، وتلك هي الحقيقة التاسعة . فقد أكد خلال لقاء مع قناة "الجزيرة" قبل أسابيع أن ليبيا ستكون دولة مدنية بمشاركة مختلف الأطياف الوطنية والسياسية وأن الدولة القادمة ستقوم على المؤسسات المدنية، ولن تكون دولة دينية أو عسكرية، مضيفا أن المجلس الانتقالي أعلن في 28 مارس الماضي عن وثيقة تؤكد أن الدولة الجديدة تقوم على أساس مدني بعيدا عن القبلية والطائفية. كما أكد وجود اتفاق حول التداول السلمي للسلطة وفق انتخابات حرة ونزيهة، إلى جانب الاتفاق على الفصل بين السلطات، وإصدار دستور يستند إلى الحقوق العامة من حرية التعبير والكتابة والاحتجاج السلمي والإضراب ونبذ العنف والتعصب. وأشار أيضا إلى أن المجال مفتوح لكل أطياف المجتمع والتجمعات الحزبية شريطة عدم استعمال العنف أو التعسف أو التطرف، سواء كان يمينيا أو يساريا، مؤكدا أن هذا هو الاتفاق العام بين المجلس ومكونات المجتمع المدني والمثقفين. وكشف كذلك عن وجود اتفاق عام بين المجلس الانتقالي والمؤسسات المدنية والمجتمعية بأهمية الخطوط العريضة بالمرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها إعداد الدستور لطرحه على الشعب في استفتاء عام، إضافة إلى إنشاء مفوضية للانتخابات، وإصدار حزمة من القرارات لتنظيم العملية الحزبية ورئاسة الدولة، مرجحا تحول "الانتقالي" الحالي إلى مؤتمر وطني سواء عبر الانتخابات أو التوافق حتى إجراء انتخابات مبكرة. وفيما أكد البعجة أن المجلس الانتقالي يسعى إلى تأكيد العدالة والاستقرار والأخوة بين الليبيين مع محاكمة من تورطوا في قتل وخطف الليبيين محاكمة عادلة ونزيهة، نفى في الوقت ذاته ما يشاع عن خلافات وصراعات داخل أروقة الانتقالي، وقال إن المجلس عبارة عن خليط من الإسلاميين والليبراليين والعلمانيين من مختلف المدن لديهم قاسم مشترك هو التخلص من نظام القذافي وإحلال بديل ديمقراطي، مشيرا في الوقت نفسه إلى وقوع بعض الأخطاء والهفوات نظرا لغياب الخبرة بالعمل السياسي. وحول خطورة الفراغ السياسي الذي يهدد الثورة في غياب الحكومة، قال البجعة إن الأحداث المتسارعة تحتم تشكيل وزارة حرب، مضيفا أنهم طلبوا من المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي الاستمرار في عمله دون اتخاذ قرارات سيادية. وأخيرا, وبالنسبة للحقيقة العاشرة, فإن مقتل القذافي يشكل نهاية المرحلة الأولى من مشوار الثورة الليبية، وبالنظر إلى أن دولة مثل ليبيا التي خضعت لحكم استبدادي دام أكثر من أربعة عقود، ليس مطلوبا منها أن تمارس الديمقراطية بين ليلة وضحاها, فإنه يتوقع أن يتم التركيز في الأسابيع المقبلة على تحقيق المصالحة الوطنية وتطوير عملية الانتقال إلى الحكم الرشيد وإلى العدالة الاجتماعية وإلى النمو الاقتصادي الذي من شأنه أن ينعكس بالفائدة على الشعب الليبي في الأمد المنظور . والخلاصة أن أوباما الذي يعول كثيرا على بث الرعب من احتمال وقوع فوضى في ليبيا ما بعد القذافي للسيطرة على مقدراتها ونهب ثرواتها لن ينجح في تحقيق مخططه الشيطاني, فثورة 17 فبراير قدمت دماء حوالي 30 ألف شهيد من أجل الحرية والكرامة ولن تسمح لأحد مهما كان أن يعيد التاريخ للوراء.