أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي، رؤية مصر لعام 2030، والتي تحدّد استراتيجية مصر للتنمية المستدامة خلال ال15 عاماً المقبلة، وتستهدف صعود مصر إلى المرتبة ال30 على مستوى سعادة المواطنين مقارنة بترتيبها الحالي في المركز ال130. وأن تصبح بين أكبر 30 دولة في مستوى التنافسية مقارنة بالترتيب الحالي 148، كما تحسّن مصر مركزها كأقوى اقتصاد في العالم لأكثر من 10 مراكز، وصولاً إلى أكبر 30 اقتصاداً مقارنة بترتيبها الحالي 41 من أصل 192 دولة. الأهداف والوعود طموحة، لذلك اتهمها البعض بأنها قفزة الى الأمام وترحيل لمشكلات الواقع الصعب، لكن وكما يقول المثل المصري «اللي يعيش ياما يشوف»، خصوصاً أن هناك آليات واضحة للمتابعة والتنفيذ ومؤشرات للقياس الكمي لمدى تحقيق الأهداف. فالوثيقة جاءت نتاج جهود أكثر من 200 باحث وخبير في مختلف المجالات عملوا خلال عامين، تحت إشراف وزارة التخطيط. لذلك اتسمت رؤية مصر لعام 2030 بالتكامل والاتساق مع الأهداف الأممية للتنمية المستدامة التي أطلقتها الأممالمتحدة للأعوام 2015 - 2030، وأجندة أفريقيا 2063. وتعتمد الرؤية المصرية على تنفيذ استراتيجية متكاملة تتناول الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة في 10 محاور تشمل: التنمية الاقتصادية، الطاقة، المعرفة، الابتكار، البحث العلمي، الشفافية، كفاءة المؤسسات الحكومية، العدالة الاجتماعية، التعليم، التدريب، الصحة، الثقافة، البيئة، التنمية العمرانية، إضافة إلى السياسة الخارجية والأمن القومي والسياسة الداخلية. جديد وثيقة مصر 2030، أنها وضعت أهدافاً قابلة للقياس الكمي ومن خلال مراحل زمنية محددة، كما اعتمدت نموذج الدولة التنموية التي تقوم بتنفيذ مشاريع كبرى وفي الوقت ذاته تدعم القطاع الخاص والمجتمع المدني وتشجّع الاستثمار الأجنبي. وأكدت الوثيقة أيضاً، ضرورة التمويل الذاتي، والعدالة الاجتماعية والتنمية البيئية، والنهوض بالتعليم والمعرفة والبحث العلمي والابتكار، علاوة على الشفافية وتحديث أجهزة الدولة. وحفلت وثيقة رؤية مصر 2030 بأرقام مبهرة عن ارتفاع متوسط دخل الفرد من 3500 دولار إلى عشرة آلاف دولار، وخفض نسبة السكان تحت خط الفقر إلى 15 في المئة، وإلى صفر بالنسبة الى الفقر المدقع، والقضاء على الأمية وخفض معدل البطالة إلى 5 في المئة، وأن تأتي 10 جامعات مصرية ضمن أفضل 500 جامعة في العالم. وكل هذه الأرقام وغيرها قد تثير جدلاً بين خبراء الاقتصاد نظراً الى اختلافاتهم في شأن قدرات الاقتصاد المصري وأجهزة الدولة ومشكلات التمويل وجذب الاستثمارات وجدوى بعض المشاريع الكبرى مثل قناة السويس الجديدة. وبعيداً من هذه الاختلافات الفنية بين خبراء الاقتصاد، ليسمح لي القارئ بأن أشاركه التفكير في الملاحظات التالية: أولاً: تؤكد الخبرة المصرية في كتابة وثائق واستراتيجيات تنموية، أن العبرة دائماً بالتنفيذ وبمدى الاستمرار في الالتزام بتنفيذ خطوطها العريضة وبرامجها. فقد أعد الرئيس عبدالناصر الميثاق الوطني عام 1962 كبرنامج للعمل الوطني والتنموي حتى 1972، ومع ذلك فلم يتم الالتزام به، كما أطلق الرئيس السادات وثيقة أكتوبر 1974، وتحدث عن استراتيجية لتنمية مصر حتى عام 2000، ولم يحدث شيء من كل ما تحدث ووعد به السادات، ربما بسبب رحيله المفاجئ. وتبنى الرئيس مبارك خططاً تنموية واستراتيجية عدة، «شروق» لتنمية الريف (1994 - 2017)، لكنها كغيرها من الاستراتيجيات التنموية المصرية لم تطبق، وبقيت مجرد وثائق وأرقام طموحة بلا إرادة حقيقية للتنفيذ. لهذا من الضروري أن تعي القيادة السياسية وتتعلم من الدروس المستفادة من التجارب السابقة، وتجتهد في الالتزام بتنفيذ الخطط والبرامج التي تطرحها، مع الحرص على الاستمرار والتواصل على رغم تغيير الحكومات. وأتصوّر أن تحقيق ذلك مرهون بتحقيق توافق سياسي واجتماعي من خلال حوار مجتمعي أو وجود حزب كبير يعمل على الحفاظ على هذا التوافق، ويوفر السند الشعبي الضروري لإنجاح أي استراتيجية تنموية. وهناك خبرات دولية تؤكد هذا الدرس، فقد نجحت الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا والبرازيل، لأن استراتيجياتها التنموية عبرت عن توافق مجتمعي مع وجود واستمرار حزب حقيقي يحظى بالغالبية. ثانياً: أعتقد أن الوعي بأهمية التوافق السياسي أو وجود حزب كبير (درس التجارب التنموية في العالم) قد غاب عن رؤية مصر لعام 2030، فلم تطرح الوثيقة رؤية سياسية لطبيعة النظام السياسي في الداخل ودور مصر ومكانتها في الدوائر العربية والأفريقية والدولية. وبالتالي، بدت الوثيقة كأنها خطط وبرامج وأرقام في الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والتعليم والبحث العلمي والثقافة، في معزل عن ضرورات السياسة والحكم ووعودهما، وحقوق الإنسان، أي أننا إزاء وثيقة تحمل رؤية لاستراتيجية تنموية ذات طابع اقتصادي في معزل عن الجوانب السياسية والاجتماعية، وبالتالي فهي في نظري ليست رؤية، إذ لم تتطرق الوثيقة إلى العلاقة بين متطلبات التحوّل الديموقراطية وجهود التنمية والعدالة الاجتماعية علاوة على دواعي الأمن والاستقرار، على رغم ضرورة الحرية للتنمية، وهنا أستشهد بعالم الاقتصاد والمفكر الهندي إمارتي صن، الذي يرى «أن إنجاز التنمية يتوقف بالكامل على تفعيل حرية الشعب. وإذا كانت الحرية هي ما تقدمه التنمية، فإن التنمية تستلزم إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات: الفقر والطغيان وشحّ الفرص الاقتصادية، وكذا الحرمان الاجتماعي المنظم وإهمال المرافق والتسهيلات العامة». ثالثاً: خضعت الوثيقة لحوار جاد وعميق بين متخصصين وفي مراكز بحثية، لكنها لم تطرح في حوار مجتمعي تشارك فيه القوى والأحزاب السياسية وفاعليات المجتمع المدني، ما يحرمها من السند الشعبي، وضمان الاستمرار خلال ال15 سنة المقبلة، حيث بدت الوثيقة كأنها بيان رئاسي أو بيان من الدولة والحكومة للشعب، وعلى الأخير الالتزام بها من دون أن يشارك في صياغتها، الأمر الذي يثير مخاوف في شأن التزام الحكومات المتعاقبة بها، بخاصة أنه لا توجد أحزاب كبيرة تملأ الفراغ السياسي الذي خلَّفه غياب «الحزب الوطني» و «الإخوان»، وتضمن التوافق على دعم هذه الوثيقة، والاستمرار في العمل بمؤشراتها وعدم تغيرها أو الانقلاب عليها. ويبدو أن الرهان على الدولة لقيادة استراتيجية التنمية وضمان استمرارها في حاجة إلى مراجعة، فقد تغيرت التوجهات السياسية والاقتصادية للدولة الساداتية مقارنة بالدولة الناصرية، كما أن دولة السيسي تختلف عن دولة مبارك. المعنى أن قوة الدولة المصرية ومؤسساتها لا تنفي إمكان تغير توجهاتها الاقتصادية مع تغير شخصية الرئيس ومواقفه وتحيزاته السياسية والاجتماعية، وبالتالي تعديل أو ربما الانقلاب على الاستراتيجيات التنموية المتوسطة أو الطويلة الأمد. رابعاً: ضعف الجوانب الثقافية في وثيقة مصر 2030، حيث حددت أهدافاً تقليدية اتسمت بالتعميم وأحياناً الغموض، مثل تطوير الثقافة وإعادة هيكلة وزارة الثقافة والآثار ودمجهما، ولم تطرح الوثيقة سياسة ثقافية واضحة وبرامج محددة، كما لم تناقش القضايا الحقيقية في الثقافة المصرية، وفي مقدمها إشكاليات الهوية الثقافية والانقسام الثقافي في المجتمع والعلاقة بين الدين والدولة، ومهام تجديد الخطاب الديني، وضمانات حريات الرأي والتعبير والإبداع، ودور الدولة والمجتمع المدني في دعم المنتجات الثقافية، بخاصة السينما والإعلام. خامساً: غاب عن استراتيجية مصر 2030 تحديد المشكلات والتحديات المتوقعة في السنوات المقبلة، والتي تحفل بالاضطراب وعدم الاستقرار في البيئة الإقليمية والدولية ومشكلات الاقتصاد والمياه والمناخ. ولم تهتم الوثيقة بتحديد أولويات التحرك والعمل داخل المحاور الرئيسية لاستراتيجية التنمية، وأولويات الاستثمار والإنفاق، وهي خطوة بالغة الأهمية في ظل أزمة التمويل. كذلك، لم توضح الوثيقة وسائل وأدوات تنفيذ الأهداف في المحاور المختلفة والأوزان النسبية للقطاع العام والحكومة والقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي في تنفيذ المشاريع. وقناعتي أن الأولوية يجب أن تنصرف إلى تطوير أجهزة الدولة والقضاء على البيروقراطية والفساد وضمان مستويات عالية من فاعلية الأداء والشفافية. لأن تلك الأجهزة هي الأداة الرئيسية في تنفيذ خطط التنمية. كما أن القدرة على إصلاحها وبسرعة تعطي رسالة إيجابية قوية بأن مصر تسير على الطريق الصحيح، ما يجدّد ثقة المصريين وطموحهم ويجذب الاستثمارات الخارجية. الملاحظات الخمس السابقة لا تقلّل من أهمية رؤية مصر 2030 والجهد الكبير المبذول في إعدادها وكتابتها، لكنها تؤكد عدم التناسب بين مكوناتها وغلبة الجوانب الاقتصادية الفنية وغياب الرؤية الشاملة، علاوة على تهميش السياسة والثقافة وعملية التحوّل الديموقراطي، ومع ذلك أتمنى أن تتحقق الأهداف الطموحة للوثيقة في الاقتصاد والتعليم والعدالة الاجتماعية، والتي تهدّدها تحديات الاستمرار في التنفيذ وعدم الانقلاب عليها أو تعطيلها لأسباب مالية أو إدارية أو سياسية. نقلا عن صحيفة الحياة