لم يكن الإعلام المصرى ممثلاً في الإذاعة التي أسست في 31 مايو 1934 والتليفزيون الذى أنشئ عام 1960 يمثل المواطن المصرى فقط، بل إن المستمع والمشاهد العربى كان جزءاً من منظومة المستفيدين من هذا الإعلام الذي أطلق عليه «إعلام الريادة» في المنطقة العربية وربما أفريقياً. واستطاع التليفزيون المصرى والإذاعة المصرية أن يكونا علي قدر المسئولية بسبب جودة المحتوى الذي كان يقدم بداية من الخبر الصادق والمعلومة الصحيحة ونهاية بنوعية البرامج التي كانت تنتج، وظل الأمر علي هذا الحال حتي بداية القرن الحالى، حيث بدأت الأمور تخرج عن مسارها الصحيح. لكن قبل أن نتحدث عن المعاناة والتدنى يجب أن نرصد الواقع الجميل الذي عشناه قبل بداية هذا القرن. فالتليفزيون المصرى كان يمتلك قناتين هما الأولى والثانية، الأولى كان يطلق عليها قناة «O» والثانية يطلق عليها قناة «q». الأولى كانت معنية بالمشاهد المصرى والعربى تقدم له البرامج والأفلام التي تخاطب ثقافتنا، والثانية تخاطب المشاهد ذا الثقافة الغربية من أفلام وبرامج. والشيء الأجمل أن كل برنامج من البرامج التي كانت تقدم علي القناتين كان نواة لقناة كبيرة متعددة البرامج، علي سبيل المثال لا الحصر برنامجا «عالم الحيوان» الذي كان يقدمه الراحل الكبير محمود سلطان و«العلم والإيمان» الذي كان يقدمه الراحل الكبير مصطفي محمود، و«عالم البحار» تقديم الراحل حامد جوهر، وكانوا نواة لقناة مثل «ناشيونال جيوجرافيك» وهي قناة معنية بعلوم مختلفة من بحار وحيوان والطبيعة وكل ما يحاول الإنسان معرفته عن الكون وظلت هذه البرامج تمثل متعة المشاهدة للمواطن المصري والعربى عقوداً طويلة إلى أن امتدت يد التخريب في ماسبيرو وزحفت لغة الموضة. لم يكن العلم والإيمان وعالم الحيوان فقط، بل كانت هناك برامج أخرى مثل «نادى السينما» تقديم درية شرف الدين و«أوسكار» تقديم سناء منصور. كان البرنامجان هما نافذة للمشاهد الذي يبحث عن الفيلم الأجنبى، وبالفعل أصبحا البرنامجين نواة لقنوات الأفلام الأجنبية الموجودة الآن مثل MBC2 و«أبوظبى ONE» وغيرهما من القنوات المعنية بالسينما. وكان برنامج «اخترنالك» الذي تناوب علي تقديمه فريال صالح ونجوي إبراهيم وفريدة الزمر، وبانوراما فرنسية الذي كانت تقدمه ميرفت فراج كانا يمثلان قمة برامج المنوعات، حيث يقدم مجموعة من الأغاني الغربية ثم ينتهي بمسلسل أجنبي بالنسبة ل«اخترنالك»، وفيلم فرنسي بالنسبة للبانوراما. وكانت هناك برامج أخرى تؤكد حرص الدولة على الأسرة المصرية والعربية كان أبرزها برنامج «حياتى» الذي كانت تقدمه فايزة واصف، وهو عبارة عن حلقة درامية تناقش مشكلة حقيقية ثم يدور حوار بين المذيعة وضيف عن الحل.. وأتذكر أن كل ربات البيوت كن يتابعن هذا البرنامج عصر كل يوم جمعة وكان محور حديث الأسرة. ومن منا ينسى السيدة ملك إسماعيل صاحبة برنامج «سلوكيات» و«علي الطريق» التي كانت تناقش مشاكل الشارع وأهم القضايا التي يعاني منها المواطن المصري البسيط، أما برنامج «ندوة للرأى» فهو كان يناقش الخطاب الديني وكان يقدمه حلمي البلك وكان موضوعه استضافة علماء الدين للرد على الشباب بشكل علمي وديني متحضر. أما برنامج الموسيقي العربية الذي كانت تقدمه الراحلة الكبيرة رتيبة الحفني وكان يقدم بعد نشرة التاسعة كل جمعة وهذا البرنامج قدم أهم الأصوات المصرية مثل علي الحجار وهاني شاكر ومحمد الحلو وإيمان الطوخي وسوزان عطية وأحمد إبراهيم ومحمد ثروت من خلال الحفلات التي كانت تقدم علي مسرح قاعة سيد درويش التابعة لأكاديمية الفنون، وكان يصاحب هؤلاء المطربين فرق كبيرة أهمها فرقة عبدالحليم نويرة للموسيقي العربية وفرقة أم كلثوم، وكانت السيدة رتيبة الحفني تقدم بين كل فقرة غنائية معلومة موسيقية تهم المشاهد.. وفي عالم الموسيقي الغربية كانت السيدة سمحة الخولي تقدم برنامجاً أسبوعياً بعنوان «عالم الموسيقي»، وعبدالمنعم كامل كان يقدم «فن الباليه». وعلي صعيد البرامج الرياضية كان فايز الزمر الأبرز دون تعصب ومعه كتيبة من المذيعين وكان برنامجه نواة لقناة النيل للرياضة. وعلي سبيل البرامج الحوارية كان هناك سمير صبري وطارق حبيب ومفيد فوزي وعبدالرحمن على، ولن ننسي «حكاوى القهاوى» تقديم سامية الإتربى.. كل هذه البرامج خرج منها الآن المئات لكن بصورة مشوهة. التليفزيون المصرى قدم مئات المذيعين بداية من سلوي حجازى وليلي رستم وسمير صبري وحمدي قنديل وأحمد فراج، ثم جيل أحمد سمير وحلمي البلك ومحمود سلطان وسهير الإتربي ومفيدة شمس الدين ونجوي إبراهيم وفريدة الزمر وماجدة أبوهيف ونادية حليم وحمدية حمدى. علي صعيد الإذاعة كانت تقدم برامج تدرس، أبرزها علي سبيل المثال: «علي الناصية» لآمال فهمى، و«الغلط فين» علي فايق زغلول، و«فنجان شاى» لسامية صادق، وحول «الأسرة البيضاء» لعمر بطيشة و«رأى الدين» لهاجر سعد الدين، و«كلمتين وبس» لفؤاد المهندس، و«التعليق علي مباريات الدورى» للإعلامى فهمي عمر، و«ألحان زمان» لهالة الحديدى، و«أضواء على الجانب الآخر» نجوى أبوالنجا، و«تسالى» إيناس جوهر، ومحيي محمود، و«عيون الميكروفون» و«سينما» إمام عمر، وصوت المعركة حمدي الكنيسى، و«صحبه وأنا معهم» آمال العمدة، وكتاب «عربى علّم العالم» لأمين بسيونى، و«ع الماشى» لصبري سلامة، و«لغتنا الجميلة» لفاروق شوشة، و«قال الفيلسوف» لإسلام فارس وسميرة عبدالعزيز، و«ربات البيوت» لصفية المهندس، و«غنوة وحدوتة» لأبلة فضيلة توفيق. لا ننسي وجدي الحكيم بالحوارات التي أجراها مع الكبار، وحديث الذكريات لأمينة صبرى. كانت الإذاعة تمثل ثروة ليس للمواطن المصري ولكن للعرب أجمعين من المحيط إلي الخليج.. ولكن مع دخول شركات الإعلان إلي عالم الإعلام جاءت مرحلة الانهيار والإسفاف، وأصبح الإعلام المصري ليس له علاقة بالواقع يقدم برامج مشوهة منقولة عن غيره من القنوات، وبالتالى انتقل من مرحلة الريادة إلي التقليد الذي أطاح به من منصات التتويج، هو الآن شاشة بلا مشاهد يضم مجموعة من أنصاف المواهب أغلبهم دخل عن طريق المحسوبية. الآن من يريد أن يعي قيمة الإعلام المصرى وتراجع شخصيته يبحث عن تأثيره خارج الحدود، لأن أى إنسان يريد أن يطمئن علي إعلامه إن كان بخير أم لا، يبحث عن صوته خارج الحدود.. الآن مصر بلا صوت في الخارج ولن نبالغ إذا قلنا وفي الداخل أيضاً.