هناك شبه إجماع على ان الاعلام المصري القومي والخاص المقروء والمرئي والمسموع يمر بأزمة كبيرة، وصفها الاستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع الأهرام فيما يخص الاعلام القومي، بأنها أزمة من لا يعرف لنفسه صاحب، ولخصها فيما يتعلق بالاعلام الخاص، في أن غالبية هذا الاعلام الساحقة مملوكة لاستثمارات تعتبره وسيلة لمصالح اخري في مجال الاستثمارات في الاراضي والمقاولات والصادرات والواردات والمضاربات، يريد أصحابه بوسائط إعلامية، ان يفرضوا على تلك المصالح «سورا واقيا من النفوذ والتأثير». ولا يستطيع أحد ان ينكر حجم القلق من المليارات الطائلة التي دخلت مصر مؤخراً وبالتحديد بعد ثورة 25 يناير، للاستثمار في مجال الاعلام بكل وسائطه، والمحطات الفضائية على وجه الخصوص، التي ينسب تمويلها الى دول خليجية تريد أن تلعب أدواراً في الساحة المصرية خاصة بمصالحها بطبيعة الحال، ولا علاقة لها بالمصالح المصرية، بعد ان شاع الاعتقاد - إن عن حق أو باطل - لدى الرأى العام، ولدى مراكز بحوث عربية ودولية، إن الفضائيات الاخبارية العربية، وبالتحديد منها قناة «الجزيرة» المملوكة للاسرة الحاكمة القطرية، قد تحولت من مصدر للأخبار والمعلومات، الى محرك لثورات الربيع العربي، بل إنها في أكثر التحليلات مبالغة صانع لها، رغم المفارقة المدهشة التي تحدثها تلك التحليلات مع واقعة استقالة او إقالة مديرها العام «وضاح خنفر» بعد ان كشفت وثائق ويكليكس عن علاقة تنسيقية وثيقة بينه وبين المخابرات العسكرية الامريكية منذ توليه موقعه، لم تكن - إن صح حدوثها - بعيدة بطبيعة الحال، عن علم من يملكون قناة الجزيرة هذا فضلاً عن سياسة طمس الحقائق التي تمثلت في المعاملة التفضيلية التي منحتها المحطة لدولة قطر صاحبة القناة، ولتيار الاسلام السياسي بكل مشاربه، وفي القلب منه جماعة الاخوان المسلمون! هذا إذن قلق مشروع، لعله كان وراء القرار الاخير للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء، بوقف إصدار تراخيص القنوات الفضائية الجديدة مؤقتا، وتكليف هيئة الاستثمار، بوصفها المانحة لتلك التراخيص، باتخاذ الاجراءات القانونية ضد الفضائيات التي تثير الفتن الدينية والمذهبية والعنصرية، وتحرض على أعمال الشغب والعنف. وقضية الاعلام المصري بكل وسائطه، بما فيها الاعلام الاليكتروني، تتطلب وقفة جادة للمراجعة وإعادة النظر، أبعد مدى من الاجراءات الشكلية، التي غيرت اسم مجلس أمناء اتحاد الاذاعة والتليفزيون الى المجلس الوطني للاعلام، والتي قررت اعادة وزارة الاعلام مرة اخرى بعد ان تم الإعلان عن إلغائها، وقفة جادة تتحلى بالمسئولية الوطنية والاخلاقية من جميع الاطراف، تكون المصلحة العامة لهذا البلد، هي هدفها الأول والاخير، وليس التوجه بالحديث الى العامة، عبر التشوهات الاعلامية التي تبغي مخاطبة عواطف المتظاهرين المشحونة في كافة الميادين، بدلاً من عقولهم، وقفة تبحث في مستقبل الاعلام المصري، وأشكال ملكية القطاع القومي منه، والضوابط المهنية والسياسية والاخلاقية التي ينبغي ان تحكم عمله في القطاعين القومي والخاص، والتي تلزم الاخير باتباع معايير الشفافية التامة فيما يخص قضية التمويل، فمن يمولون وسائط إعلامية ليسوا جمعيات خيرية للبر والإحسان، بل هى جهات رسمية وأهلية ذات مصالح مالية أو سياسية، يحق للرأي العام ان يعرف طبيعتها، كما يحق للجهات الرسمية ان تضع الضوابط الشفافة أيضا والتي لا تتصادم مع حريات الرأي والتعبير التي أصبح من المستحيل في قلب ثورة الاتصالات مصادرتها، أو العمل على حجب المعلومات والحقائق، وهي ضوابط الهدف منها ضرب حرية الاعلام كما يروج الذين يسعون الى التعمية عن مصادر التمويل غير المعلومة، والتي قد تأتي ايضا من أنشطة غير قانونية، كالمتاجرة في السلاح والمخدرات، فضلاً عما يروجه الذين يفهمون الحرية، على أنها تحلل من كل الالتزامات، بما في ذلك الالتزامات المهنية، التي تمنع هذا الخلط الفاضح السائد الآن بين ما هو سياسي وما هو إعلامي، كما تحظر تشويه المخالفين في الرأي، والدين والمذهب واللون والجنس والوضع الاجتماعي. لا أحد ينكر بطبيعة الحال الدور الذي لعبه الاعلام الخاص في رفع سقف الحريات الاعلامية، وكسر احتكار المعلومات أو السيطرة على مصادر المعرفة والحقائق أو فرض الرأي الواحد، كما انه أفاد في اتساع مساحة الحرية في الاعلام الرسمي، الذي اضطر في حومة المنافسة الى تجديد خطابه الاعلامي والارتقاء بمستوى ادائه المهني، وهنا أتحدث بشكل خاص، عن الصحافة المقروءة لكن هذا الاعتراف بالفضل لا ينفي حقيقة ان قوى مالية هائلة غير معلومة المصدر، تدخل الآن الساحة المصرية للعمل في ميدان الاعلام الفضائي والورقي، والدليل الزيادة غير الطبيعية في عدد القنوات الفضائية في غضون ثمانية اشهر فقط من اندلاع الثورة فضلاً عن الزيادة الملحوظة في الإصدارات الصحفية، فاذا ما علمنا أن القراءة لم تعد من الفضائل لدى الغالبية العظمى من المصريين، وان مصر، طبقاً لتقرير أذاعته محطة ال بي بي سي البريطانية منسوبا الى هيئة الأممالمتحدة هي من أعلى الدول التي ترتفع فيها نسبة الامية في العالم يصبح السؤال هو لمن تصدر إذن هذه الصحف؟ مع الاخذ في الاعتبار الانخفاض الحاد في الاعلانات وهي مصدر مهم من مصادر تمويل الصحف، بالاضافة الى ما كشف عنه الاستاذ هيكل في حواره الاهرامي من ان ثلاثة رجال وليس أكثر، هم من يتحكمون الآن في الاعتمادات التي تخصص للاعلان في مصر وحجمها نحو مليار جنيه وهذه الاعتمادات الاعلانية تستطيع إنجاح صحف وفضائيات وإعدام اخرى، كما يؤكد الاستاذ هيكل لاسيما في غيبة مقاييس موضوعية وعلمية لتخصيص حصص تلك الاعلانات وهي مشكلة اخرى تضاف الى مشاكل الاعلام الحزبي والقومي والخاص. معنى ما سبق ان الاعلام الفضائي أصبح هو الذي يشكل وعى واتجاهات الرأي العام، باعتباره وسيلة معرفية سهلة لا تحتاج سوى الى مجهود المشاهدة فاذا كان حال الفضائيات الخاصة المصرية والعربية هو كما سبق الاشارة من التحلل من مواثيق الشرف المهنية، والافراط في الخلط بين الرأي والخبر والاعلان والاعلام، وعدم التفرقة بين ما هو سياسي وما هو اعلامي، وما هو دعائى وما هو موضوعي، وما هو حر مستقل، وما هو موجه فضلاً عن التدهور الذي لحق بالاعلام الفضائي الرسمي، فإنني أقترح على السيد اسامة هيكل وزير الاعلام سرعة الدعوة الى مؤتمر قومي لبحث مستقبل الاعلام المصري من حيث ملكيته وإدارته ومواثيق الشرف المهنية التي تحكم كل أنشطة وسائطه المختلفة كما هو الحال في كل الديمقراطيات الغربية، على أن يقتصر الحضور فيه على كفاءات مهنية وسياسية ونقابية وممثلين مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة عن الاعلام الخاص والقومي للتوصل عبر حوار علمي جاد الى المشتركات الوطنية لعمل الاعلام في المرحلة الجديدة، وأشكال ملكيته بما يخدم أهداف التنمية والارتقاء بوعي الجماهير، وبما يجعل منه رافعة لبناء الدولة المدنية الحديثة وليس معولاً للتحطيم والهدم.