سقطت مؤخرا قذيفة أطلقتها قوات بشار الأسد على تركيا، وأودت بحياة خمسة أشخاص، الأمر الذي دفع الكثير من المحللين السياسيين لتوقع حدوث تصعيد عسكري قوي من جانب القيادة التركية ضد النظام السوري الغاشم، لكن ردة فعل تركيا لم تكن كما توقع البعض حيث اكتفى البرلمان التركي بتفويض الجيش بالقيام بعمليات خارج حدود البلاد دون الخوض في أي تفاصيل. ورغم أن هذا التفويض يحمل لدى البعض احتمالات بشن حرب على سوريا، إلا أن حقيقة الأمر تبدو مغايرة تماماً وهي أن قرار البرلمان التركي كان يهدف فقط إلى حفظ ماء الوجه، وتوصيل رسالة إلى بشار وعصابته، مفادها أن تركيا سترد في المرة القادمة ولن تكف مكتوفة الأيدي. والحقيقة التي لا يستطيع أحد أن ينكرها هي أن تركيا لا تستطيع أن تخوض حرب مع سوريا، ليس لأنها دولة ضعيفة عسكريا، بل لأنها دولة تحتل الآن مكانة اقتصادية كبيرة بين الدول الكبرى في العالم وأن دخولها في أي حرب سيفقدها الكثير والكثير من هذه المكانة وسيعيدها سريعاً إلى الوراء، وربما يطيح أيضاً بحزب العدالة والتنمية الذي يرتكز نجاحه في الأساس على الوضع الاقتصادي الرفيع الذي أوصل بلاده إليه منذ توليه مقاليد الحكم قبل نحو عشر سنوات. لكن إذا كانت تركيا دولة قوية وعضوا في حلف "شمال الأطلسي" مقارنة بنظام بشار الهش، فكيف لا تنجز تركيا هذه المعركة بدعم من "الأطلسي" الذي تنص بنود تأسيسه على مساندة أي دولة عضو تتعرض إلى هجوم من دولة أخرى؟ .. تكمن الإجابة على هذا السؤال في أن الدول الكبرى نفسها لا تريد أن تساعد تركيا في هذه المعركة، بل تريد أن تورطها في الأساس، وهو أمر يظهر جلياً بالنظر إلى البلدان التى تعلن عن دعم نظام بشار في العلن مثل روسيا، والصين، وإيران وإسرائيل، وهي دول تربطها علاقات ومصالح قوية بالعديد من الدول الأعضاء في حلف الأطلسي والتي تسعى من الباطن إلى توريط تركيا في الحرب داخل سوريا من أجل الإضرار باقتصادها الذي بزغ في القارة الأوروبية وأصبح منافسا للاتحاد الأوروبي، الذي كان قد رفض مراراً وتكراراً انضمام تركيا "المسلمة" إليه. وبالتالي، فإن مصلحة كل هذه الدول اجتمعت على بقاء نظام بشار وتوريط تركيا التي بزغ أيضاً نجمها السياسي في المنطقة من خلال عدة مواقف شجاعة بدأت بالدعم العلني للقضية الفلسطينية مرورا باستضافة رموز المعارضة السورية وقيادات الجيش السوري الحر. ومن أبرز الأمور التي تؤكد النوايا "الخبيثة" التي تحاك بتركيا، قضية اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم تركيا ووصل عددهم إلى ما يقارب المائة ألف لاجئ، وهو ما يكبد الحكومة التركية تكاليف باهظة في وقت لا يعير المجتمع الدولي أي اهتمام صريح بالتدخل لوقف نزيف الدم وحماية الشعب السوري، ليتماشى ذلك مع مصالحهم التي ترتكز في الأساس على تدمير سوريا، الإبقاء على نظام بشار، وعدم قيام نظام يهدد أمن إسرائيل، وصولاً إلى توريط تركيا في نهاية الأمر. وبطبيعة الحال، فإن نظام بشار أدرك عجز القيادة التركية على الدخول في حرب مباشرة معه استنادا إلى الحقائق المتعلقة بوضعها الاقتصادي ومستقبل حزب العدالة والتنمية، وبدأ يستغل هذا الملف من خلال تدويل "الثورة" وإحراج تركيا، وإضعاف معنويات الجيش السوري الحر، وهي أمور تجد صداها في الأجهزة الإعلامية لدى الدول المستفيدة من استمرار الأوضاع المتدهورة في سوريا. وقد جاء الانتهاك السوري الأخير للأراضي التركية ليتماشى مع استيعاب بشار وعصابته لحجم الدعم الخارجي سالف الذكر، لأن نظام بشار لم يكن بهذه الجراءة من قبل، فهو حتى لم يستطع إطلاق قذيفة واحدة لتحرير الجولان المحتل من جانب الكيان الصهيوني أو إطلاق صاروخ واحد على الطيران العسكري الإسرائيلي الذي دخل إلى الأراضي السورية ومر فوق قصر بشار عام 2006 في مدينة اللاذقية الساحلية، واكتفى نظام بشار حينها بتوجيه رسالتين إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن، وقالت الحكومة السورية إنها تحتفظ بالحق في الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم إسرائيلي. وبالطبع، إذا كانت الجراءة التي أظهرها نظام بشار حيال تركيا هذه الأيام تعكس إلى حد بعيد حجم الدول المساندة له، فإن هناك في المقابل إدراكاً كاملاً من القيادة التركية لهذه المؤامرة، كما أن هناك أيضاً وعياً حقيقياً من جانب قادة الجيش السوري الحر لحجم المؤامرة، وهو ما دفعهم للتأكيد مراراً وتكرارا على أنهم لا يريدون تدخلاً عسكرياً من أي دولة أخرى، بل يريدون السلاح فقط، وهو مطلب يعكس حجم إيمانهم بربهم وثقتهم في أنفسهم في مواجهة قوى "خبيثة" جمعت لهم من كل حدب وصوب، ولم يزيدهم ذلك إلا إيماناً ويقيناً في نصر الله .. "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ".