فما نفعل إذن يا صديقي مع الكلمة؟ .. كيف نواجه معضلة اللغة وعظمتها؟ بإمكانك يا صديقي أن تكون لصا .. لصا أنانيا على وجه الدقة .. ترى الكلمة زجاجا شفافا ، يتوارى وراءه كل ما تعنيه وعنته وستعنيه .. ترمق ما وراء زجاجها الشفاف بعينك الآثمة الخبيثة ، وتتخير وتنتقي ما غلا ثمنه وحلا في عينك ، وتنتشله بخفة يدك المدربة ، ولا تترك أثرا أو دليلا ، وإن ساءلك مسائل عما فعلت ، تومئ ببراءة الطفل إلى الزجاج الذي لم ينكسر ، كأنك تقول له إن الكلمة ما زالت كما هي ، فينظر بعينه الكليلة ، ولا يبصر أن أجمل ما في الكلمة أصبح في جيبك .. ومتى كنت هذا اللص المحترف ، كنت شاعرا .. وبإمكانك يا صديقي أن تكون شرطيا .. شرطيا مدرّبا على وجه الدقة .. تعلم أن وراء زجاج الكلمة أكثر مما يبدو للناظر المتعجل ، فتشحذ بصرك وتنبّه حواسك .. وتشرع في إحصاء ما وراء الزجاج معنى معنى ، وترتب علائقها وروابطها ، فهذا المعنى فوق ذاك ، وهذا قريب منه ، وهذا بعيد عن صاحبه ، وهذا أجمل وهذا أغرب .. وتمضي العمر تحصي وتحصر وترتب وتراقب .. ومتى كنت ذلك الشرطي الخبير ، كنت مفكرا .. وبإمكانك يا صديقي أن تكون شهيدا .. يستفزك هذا الزجاج وما خلفه ، ترى الجميل فيه بنصف قلب ، وترى القبيح فيه بعقل ونصف .. وترضى عن شيء من الترتيب فيه وتسخط على أشياء .. ويجذبك إلى جماله وحسن اتساقه حينا ، وتتميز غيظا من غموض بعض زواياه وتداخلها واضطرابها حينا .. فتلقي بنفسك نصف يائس ونصف متأمل إلى داخله مع حزام متفجر ، فتقلب عاليه سافله وتعيد مع لحمك المتطاير ودمك المتراشق تشكيله وترتيبه وتعريف أنحائه .. ومتى كنت هذا الشهيد الغاضب ، كنت فيلسوفا ..