تشبه اللحظة الأناركيّة شقيقتها الاشتراكيّة في الفكر الإسلامي. وأسميها لحظة لأنها بالفعل لحظة للاصطدام وتعرُّف الفكر الإسلامي على تلك الأيديولوجيات الطوباويّة؛ قبل أن تتحطم ولا يبقى منها سوى دراويش يدّعون اللاسلطويّة حيناً، أو الاشتراكيّة "الإسلامية" حيناً آخر: كشكل من أشكال الحنين المرضي إلى طوبيا/شرك يتوقف فيها التدافع الإنساني، بفعل الضبط القانوني البرّاني. بعد اختزال الإنسان في كمّ حيّزي! وهي لحظة لأنها -ككل الأنماط الأيديولوجية/الشركية- قصيرة العمر للغاية، فهي تتحطم إن لم تتحقق. إن تحطمها السريع حتمي بسبب طبيعة النسق المادي الذي صدرت عنه. وهي حين تبقى دهوراً متطاولة في حس الدراويش، فإنها تستمر في الوجدان بفعل فقدانها لصرامتها المادية -أهم معالمها- واختلاطها بالميتافيزيقا الشخصية لهؤلاء الدراويش، فتتحول لشكل من أشكال "الذكر" الغنوصي والتسبيح الوثني لإله غامض بلا ملامح، لتنحرف تماما وكلياً عن تصورها المادي الأصلي. فلا هي استمرت أيديولوجية صلبة، ولا هي سقطت، وإنما أفرزت ميتافيزيقا بلا أخلاق ولا التزامات من أي نوع؛ مجرد تعويض نفسي للخيبة والإخفاق الأيديولوجي. لقد شرع بعض المسلمين السُذّج بأسلمة الأناركيّة، فمنهم (المسيّسون) من قال بقبول "لا سلطويتها" بما أنها لا تتعارض مع الإسلام، ومنهم (التكفيريّون المسلّحون) من قال بأنها فرصة لتقويض بنية الدولة الكافرة وإقامة الدولة "الإسلاميّة" على أنقاضها! ومنبع ذينك التصوّرين هو الجهل التام والمطبق بالتاريخ الإسلامي، كمجال للتجربة الإنسانيّة والخطأ، وللأنماط التي صدرت عن الرؤية التوحيدية، خصوصاً أنماط السلطة السياسيّة (الدولة)؛ حتى في اشد عصور تدهور المسلمين وابتعادهم عن المصدر المتجاوز. إن تقويض الدول القوميّة التي تمت أسلمتها زوراً في شتى بقاع الأرض، وإن اتفقت معه الاناركيّة على بعض أرضيّته الإسلاميّة في نقض سلطة الدولة المتألهة، فإنها تخالفه في المنطلق والمآلات حتماً. فالنقد الأناركي الطوباوي مجرد هامش رومانتيكي على الدولة التي تآكلت سلطتها فعلياً بفعل سلطة السوق، إذ لا يمكن تعريف الاناركية سوى من خلال الدولة القومية، أوالمطلقة أوالمتألهة أوالعميقة كما يسميها بعضهم. فإذا سقطت الدولة الحديثة؛ سقطت الأناركية ولا سلطويتها. إن مثلها في ذلك مثل كل الأنساق الاحتجاجية الرومانتيكية الوضعية: الماركسية، الوجودية، الترانسندنتالية، ما بعد الكولونيالية؛ مجرد حركات احتجاج لا يمكن تعريفها إلا في إطار النسق الأصلي الذي نشأت كهامش عليه، وقد كان ماركس واعياً بذلك حين قال أن "الماركسية هي نقد الرأسمالية". وبعبارة أخرى، فكل الانساق الرومانتيكية لا تقوم بذاتها، بل تقوم بغيرها كما يقول الصوفية، فهي عالة عليه. فإن سقط الأصل؛ سقط الفرع. إن الاناركية ترفض الدولة القومية العلمانية (نظرياً فحسب بما أن الدولة نفسها قد تألهت على المستوى العملي) ترفضها وتحتج عليها كنتيجة حتمية لوضع الدولة نفسها في المركز، بديلاً للكنيسة/الإله/الملك ... إلخ. فالاناركية ترفض فكرة المركز أصلاً (أي فكرة الإله؛ سواء كان كامناً او متجاوزاً). إن شعارها الاهم "لا آلهة، ولا سادة" No gods, no masters؛ هو بحد ذاته كاشف ذي مقدرة تفسيرية عالية لطبيعة النسق الأيديولوجي الاناركي. وربما بسبب هذه السيولة، كانت الاناركية من أفضل الأيديولوجيات في حقبة "الما بعديات": ما بعد الحداثة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد البنيوية ... إلخ. لكن هل هذا الرفض الإلحادي للآلهة والسادة حقيقي أم نظري متوهَّهم؟! يُنبئنا القرآن أنه متوهَّم، وأن هذا النمط ليس جديداً على الإنسانية البتة، ولو تغيّر مسماه. يقول تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه. إذن فالهوى قد يتخذ إلهاً!! إن الإنسان لا يتسطيع أن يكون ملحداً حتى لو أراد، وقد كان برتراند راسل (وبيغوفيتش) يسخر من لينين قائلاً بأن الأخير يظن نفسه ملحداً وهو مخطيء بالتأكيد! إن الاناركية التي ترفض فكرة المركز على المستوى الواعي، في حين تسلم بها تسليما مطلقا على المستوى الكامن، فلا يوجد نسق بلا مركز حتى في أشد الأيديولوجيات سيولة. إن رفض المراكز الظاهرة برمتها يعني قبول الذات مركزاً وإلهاً وحيداً من دون الله! إن هذا التصور الإلحادي نظرياً، والشركي عملياً؛ لا يمكن أسلمته أو أسلمة بعضه. ولو التقى مع الإسلام في شيء، فهذا امر وارد بما أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها واحدة، ومن ثم فإن أشد انحرافات الفطرة وانتكاساتها تنطوي على بارقة من الأصل التوحيدي حتما. إن التوحيد ومفارقة الإله للعالم (مع دوام هيمنته عليه) وعدم اتحاده به؛ هو أولى لبنات التصور الإسلامي. إن البدء بتقويض أي مركز مزيف هو نفسه أولى خطوات الدخول في هذا الدين (لا إله ... إلا الله)، وهو نفسه هدف جهاد الطلب؛ تقويض المراكز التي تعبد الناس لغير ربهم الحق. إن البدء بالتقويض هنا ليس لبناء الهوية الجديدة من خلال الهدم كما في الانساق الوضعية للشرك؛ بل هو لتخلية الطريق بين الإنسان وفطرته حتى لا تشوش عليه الآلهة البرّانيّة المكذوبة. لقد عمد بعض المفكرين المسلمين ل"أسلمة" الاشتراكيّة في الثلثين الأولين من القرن العشرين؛ قصوراً منهم -حينذاك- عن الغوص في بنية الاشتراكية وإدراكها كحركة رومانتيكية/مشركة بطبعها، مجرد حركة احتجاج قصيرة العمر عاجزة عن دفع الإنسانية للأمام، بل إن أعظم إنجازاتها لن يتعدى تفكيك بعض مقولات ومسلمات الأصل الذي بنيت على هامشه. إن إدراك التعارض البنيوي العميق بين التوحيد والشرك هو أحد أركان الإسلام. فحتى إن انطوى الشرك على بعض الفطرة السلمية؛ إلا أنه ينطلق من رؤية مشركة وأرضية مشركة ومآله إلى ما ينتهي إليه الشرك. "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ". والله تعالى أعلى وأعلم.