في أعقاب الثورات الشعبية وفي أثناء تكوين النظم الجديدة ما بعد الثورات، عادة ما تظهر مجموعة من الأحزاب السياسية الوليدة التي تعكس قيم ومفاهيم هذه الثورات وتستلهم روحها. فكما حدث عقب ثورة 1919 مثلا، والتي أشهرت في وجه الاحتلال مطلب الاستقلال، وفي وجه النظام مطلب الملكية الدستورية، نشأت مجموعة من الأحزاب الجديدة – على رأسها حزب الوفد المصري – لتعكس في أيديولوجياتها وبرامجها هذين المطلبين ودشنت حقبة ليبرالية في مصر امتدت حتى 1952. هذه المبادرات الحزبية تجتمع– في رأيي– في خصائص ثلاث هي انعكاس مباشر لثورة 25 يناير. ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم المبادرات الحزبية الجديدة– منها مبادرة حزب التيار المصري–عقب ثورة 25 يناير والتي تشترك في العديد من الخصائص، وتمثل انعكاسا ل«حالة ميدان التحرير» إن جاز هذا التعبير. وهذه المبادرات الحزبية، أعني بها مشاريع الأحزاب التي بدأت تتبلور رؤاها، وتتكون هياكلها في أعقاب الثورة، وليست الأحزاب التي نجحت قوى سياسية كانت موجودة بالفعل في تأسيسها بعد أن كانت محرومة من هذا الحق في ظل النظام الديكتاتوري السابق، كحزب «الوسط» أو «الحرية والعدالة» وغيرهما. 1- أحزاب «ما بعد الأيديولوجيا»: فهذه الأحزاب الجديدة تعرف نفسها بتعبيرات من طراز «أنها لا تخضع للتصنيفات السياسية القديمة» أو «أنها معنية بالبرامج التنفيذية أكثر من التنظير الايديولوجي» أو ما شابه. هذه الخاصية لها سببان: أولا لأنها صورة نقية لحالة ميدان التحرير والتي غابت فيها الألوان الأيديولوجية، وانصهرت في طيف مصري واحد؛ وثانيا لأن أزمة غياب التمايز الأيديولوجي في البرامج التنفيذية للأحزاب المختلفة صارت ظاهرة، ليس في مصر وحدها، بل في العالم مما دفع العديد من الأكاديميين السياسيين إلى الدعوة لتجاوز الأحزاب والبحث عن كيانات مبتكرة للتعبير عن التنوعات السياسية. 2- أحزاب غير نخبوية: فهذه الأحزاب لا يؤسسها رموز سياسية أو قيادات تاريخية أو أكاديميون مرموقون، بل إن قياداتها من الناشطين السياسيين، بل وبعضهم من المواطنيين العاديين الذين لم يمارسوا النشاط السياسي إلا أثناء الثورة! وهذه الخاصية أيضا هي انعكاس أمين لهذه الثورة. ففي الثورة رأينا أن العقل الجمعي للجماهير هو الذي يرسم الخطط، ويحدد سقف المطالب، ويتعامل مع مناورات الخصوم، بينما كانت النخب السياسية المعارضة مثقلة بتنظيراتها وبتجاربها السابقة. في الميدان، لم نر الصورة النمطية للنخب السياسية التي تقف على المنصة لتوجه الجماهير وترشدهم، بل على العكس رأينا الجماهير هي التي تقف لتقيّم كلمات هذه النخب وتصريحاتها. فإذا وافقت رؤاها رحبت بها وهتفت لها وإلا هتفت ضدها وطالبتها بمغادرة المنصة. عقب نجاح الثورة في إزالة رأس النظام، اكتسبت الجماهير ثقة أكبر بالنفس ورغبة أكبر في الانخراط في العمل السياسي وفي نفس الوقت احترام أقل للنخب السياسية ودورها. وأزعم هنا أيضا أن أزمة النخب السياسية والجماهير أصبحت ظاهرة عالمية. ففي فرنسا مثلا، هناك تناقص ملحوظ في معدلات التصويت في الانتخابات التشريعية والمحلية مقابل زيادة هائلة في مظاهر الاحتجاجات والاضرابات (وصلت إلى معدل فاعليتين يوميا)، بمعنى أن المسارات الشرعية للتأثير في القرار السياسي عبر تمثيل النخب السياسية فقدت احترامها، وأن الجماهير بدأت تلجأ إلى المسارات البديلة تعبر فيه عن نفسها بطريقة مباشرة. وما تظاهرات الشباب الأسباني واعتصاماتهم خلال الشهر الماضي قبيل الانتخابات ضد الأحزاب الرئيسة في البلاد واتهامها بأنها تلعب مع بعضها لعبة الكراسي الموسيقية في السلطة دون اهتمام حقيقي بالمواطن أو اختلاف في برامجها إلا نموذجا آخر على عمق هذه الأزمة. 3- أحزاب شبابية: وهذه هي الخاصية الثالثة، فثورة ميدان التحرير كانت تغلب عليها الروح الشابة بالرغم من حقيقة المشاركة الشعبية الواسعة بمختلف مراحلها العمرية. وهذا ببساطة نظرا لأن الشباب كانوا هم مشعلو هذه الثورة ونظرا لأن الشباب يمثلون نسبة مرتفعة من التركيبة السكانية في مصر. وربما كانت هناك مبالغة في موقف الشباب تجاه القيادات الأكبر عمرا ودورها في مرحلة ما بعد الثورة كرد فعل متفهم لاحتكار هذه القيادات للمشهد السياسي لمدة طويلة، ولتشكيكهم المستمر في إمكانيات الشباب، وتقليلهم من دوره قبل هذه الثورة. الخلاصة أن الأحزاب التقليدية والقوى السياسية إن لم تتفهم هذه الروح وظلت: 1) تقدم التنظير والدعايا الأيديولوجية على تقديم البرامج العملية والحلول النوعية لمشاكل الشعب؛ 2) أصرت على اللهجة النخبوية وروح الوصاية في تعاملها مع الجماهير، ولم تفتح مجالا حقيقيا للتشارك في الشأن السياسي خصوصا بعد هذا الوعي والنضج والتضحية التي قدمتها الجماهير في الثورة؛ 3) تهميش دور الشباب في القيادة وتصدير قياداتها الأقدم عمرا وحدها وحصريا في الواجهة، فإنها ستخسر كثيرا من صورتها الذهنية وشعبيتها، وسيتقلص يوما بعد يوم دورها في مصر ما بعد الثورة. وما مثال الحزب الوطني القديم (حزب مصطفى كامل) في أعقاب ثورة 1919 منا ببعيد.