الشعب يريد كانت أول مرة أسمع فيها هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" يوم 25 يناير 2011. كنت يومها أحضر اجتماعا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وكنت أنوي أن أتوقف قليلا في التحرير حيث سمعت عن تواجد بعض المتظاهرين. وأثناء توجههي للتحرير سمعت من أصدقائي في الميدان أن الأعداد في تزايد وأن قوات الشرطة حاولت القبض على ابن أختي البالغ من العمر وقتها خمسة عشر عاما والذي كان بصحبة أمه (أختي) في التحرير. وصلت للميدان حوالي الساعة الخامسة، وبعد أن عثرت على أختي وابنها سالمين وبعد أن قررا العودة لمنزلهما قررت أنا البقاء في الميدان لأبحث عن أصدقائي الذين وجدت صعوبة بالغة في العثور عليهم نظرا لإيقاف شبكة المحمول في الميدان والتشويش عليها. وأثناء تجولي في أرجاء الميدان الرحبة توقفت عند تجمع يضم حوالي خمسة آلاف شخص على ناصية شارع محمد محمود. كانت الساعة وقتها قد قاربت السابعة مساء وكانت الجموع تهتف هتافا لم أتمكن من تفسير كلماته بدقة. "الشعب. (وقفة) يريد. (وقفة)." ثم كلمتان لم أستطع تمييزهما. وأثناء محاولتي تبين ما الذي يريده الشعب تحديدا خطر لي أنني سمعت هذا الهتاف من قبل، ليس بكلماته ولكن بإيقاعه. في الشهور اللاحقة تبين لي أن هذا الإيقاع "__ . __ . __ __" معروف ومتداول في مظاهرات وحركات احتجاجية في بلدان عديدة وقد استخدمناه نحن في العديد من شعاراتنا وأهمها شعار الثورة الأشهر: "عيش. حرية. كرامة إنسانية"، وبعد ذلك بشهور عندما رددنا شعار "ثوار. أحرار. هنكمل المشوار". ولكن يوم 25 يناير لم أكن قد سمعت بعد هذين الشعارين، كنت أدرك فقط أنني سمعت هذا الإيقاع من قبل. وسرعان ما تبين لي أن هتاف الجماهير منذ الستينات، الهتاف الذي تربيت أنا وأبناء جيلي عليه، كان يتبع نفس الإيقاع، وأعني به هتاف "بالروح. بالدم. نفديك يا جمال". في تلك اللحظة، اللحظة التي أدركت فيها أن إيقاع الهتاف له صدى في تاريخنا، أستطعت أيضا أن أميز الكلمتين الناقصتين: "إسقاط النظام". لحظتها سرت قشعريرة قوية في كل أنحاء جسمي، وأدركت أني أشهد بالفعل لحظة تاريخية سأعيش عمري كله أحاول أن أفهمها وأفسرها. فالهتاف ذو الإيقاع المألوف حمل الآن معني غير مألوف بالمرة. فالشعب لا يعبر عن استعداده للتضحية بروحه وبدمه فداء لزعيمه وقائده، بل يقوم الآن بشئ جديد وثوري. إنه الآن صاحب صوت وإرادة وفعل. الشعب لم يعد مفعولا به يتحدث باسمه الزعيم أو النظام، بل أصبح فاعلا ومتحدثا. وجاء حديثه قويا فصيحا، لا أعوجاج فيه ولا إبهام. إن الشعب الآن لا يطالب بإصلاح النظام أو ترقيع صورته. إنه لا يسعى لشيئ أقل من إسقاط النظام برمته. لكن أي نظام يريد الشعب إسقاطه؟ يحاول العسكر إيهامنا أنهم أيضا مع إسقاط النظام، ولكنهم يقصدون نظام مبارك الذين ضحوا به وسمحوا لمحاكمته هو وأبنائه ووزرائه. ولكننا نحاول بالمقابل أن نؤكد عليهم أننا لا نريد إسقاط مبارك فقط بل نريد إسقاط النظام الذي أتى بهم للسلطة؛ النظام الذي شرح أيديولوجيته باقتدار شريف يونس في رائعته "نداء الشعب"؛ النظام الذي تحدث باسمنا عقودا طويلة ولكن استبعدنا عمليا من الحياة السياسية؛ النظام الذي ادعى أنه يريد إقامة "ديكتاتورية الشعب" والذي أراد بها أن يحولنا إلى جموع متراصة متماسكة تتطلع متحفزة متأهبة لطليعة ثورية يحتلها ضباط الجيش؛ النظام الذي يشعر دائما بخيبة أمل عندما ينظر للشعب وقد تفرق أشياعا وفرقا؛ النظام الذي يعتبر أن الشعب فاسد أو مضلَّل أو ضعيف، وبذا يحتاج لسلطة ضباط تحميه وتحرسه؛ النظام الذي أقام فراغا سياسيا منع الشعب من دخوله وأقام نفسه حارسا عليه. هذا النظام هو نظام يوليو الذي صدحت حناجر الجماهير بإسقاطه يوم 25 يناير. صور وأعلام صحيح أننا عندما كنا نهتف "يسقط يسقط حكم العسكر" لم نكن نعني تحديدا عبد الناصر ورجاله، وصحيح أيضا أن بعضنا -- في مفارقة مضحكة -- كان يردد هذا الهتاف وهو يحمل صورة عبد الناصر وأحيانا صورته وهو في زيه العسكري، ولكن لا شك أننا بترديدنا لهذا الهتاف ضد العسكر كنا وما زلنا نعلن اعتراضنا على نظام الوصاية على الشعب الذي انتهجه العسكر منذ إرساء قواعد دولة يوليو. ولكن لم يكن هتاف "يسقط يسقط حكم العسكر" هو الدليل الوحيد على أن ثورة 25 ينايرتعدت بشكل جوهري ثورة 52 وأن من أهدافها إسقاط نظام يوليو. فإضافة إلى الغياب الواضح لصور عبد الناصر أثناء الثمانية عشر يوما من الثورة وفي ما لحقها من مظاهرات عديدة، فإن مبادئ وأهداف وشعارات ثورة يناير تخطت بكثير أهداف يوليو وتعدتها. فشعار "عيش. حرية. كرامة إنسانية" أسمى وأعمق بكثير من شعار "الاتحاد والنظام والعمل" الذي رفعه رجال يوليو في أوائل حكمهم والذي استبدلوه لاحقا بشعار "تحالف قوى الشعب العاملة". ومرة أخرى يشرح شريف يونس في كتابه الهام "نداء الشعب: تاريخ نقدي للأيديولوجية الناصرية" كيف سعى نظام يوليو لتحقيق شيئ اسمه "الديموقراطية السليمة" التي جاءت في ذيل قائمة أهداف الثورة. ويضيف شريف يونس معقبا "إلى أن تتحقق هذه الديمقراطية غير المحددة، تعيش البلاد في حالة طوارئ فعلية دائمة، أي نظام يقوم على حرية تصرف واسعة للبيروقراطية، تحت هيمنة جهاز الأمن، بالحد الأدنى من القيود الذي يتيح تسيير حياة يومية بقدر من النظام والتواتر، والمفتوحة مع ذلك للتدخل العنيف من أعلى". والأمثلة على هذا "التدخل العنيف" كثيرة متعددة، منها تأميم الصحف، ومنع الاتحادات العمالية المستقلة، وقتل الحرية الأكاديمية في الجامعات، والتحكم في النقابات المهنية، وتزوير الانتخابات، واعتقال الناشطين السياسيين من ماركسيين وإخوان مسلمين وغيرهم والزج بهم في السجون وتعريضهم لتعذيب وحشي مهين – كل ذلك باسم الشعب ونيابة عنه وحماية له وتهذيا لأخلاقه. لقد قامت ثورة يناير ضد هذه الممارسات وضد الفلسفة التي تحكمها، تلك الفلسفة التي ترى ضرورة تأسيس نظام الحكم على حالة طوارئ دائمة. بالمقابل نزلت الجماهير في الشوارع—وما زالت تنزل – لتؤكد على حقها في فتح المجال العام الذي أوصده نظام يوليو أمامها لعقود ستة طويلة، ولتؤكد على أن الميدان ميدانها، وأن المدينة مدينتها، وأن البلد بلدها، وأن الجيش جيشها، يخضع لإرادتها ويأتمر بأمرها، وأن مكانه على الحدود يحميها ويذود عنها وليس في وسط المدن يتحرش بها ويكشف على عذرية المواطنات. ومما يؤكد أيضا تعدي ثورة يناير لأهداف وشعارات ثورة يوليو تلك الروح المفعمة بالثقة في الذات التي لمسها كل من نزل ميادين التحرير في أيام الثورة المجيدة. صحيح أن عبد الناصر صاحب مقولة "أرفع رأسك يا أخي"، وصحيح أن عبد الناصر هو من أعلى من قيمة "العزة والكرامة" حتى صارتا من أهداف الثورة ومن أركان النظام. على أن روح يوليو، في رأيي، تظل روحا غاضبة، متوجسة، مرتابة في الشعب وإن ادعت استلهامه، حانقة على "الاستعمار وأعوان الاستعمار"، تبغض "الإقطاع وأذناب الإقطاع". بالمقابل فإن روح يناير دمها خفيف، مفعمة بالأمل، واثقة في نفسها، ترى أن غنى الشعب لا يكمن في توحده بل في تنوعه، وأن قوته لا تكمن في اصطفافه خلف زعيم ملهم في "زحف مقدس" بل في تشعبه وتناغمه وقدرته على خلع قائده وعزله عن الحكم. إن عظمة شعار "ارفع راسك فوق، أنت مصري" تنبع من تلقائيته، إذ لم يصدر من عل للجماهير أسفل، بل انفجر في أجواء التحرير يوم 11 فبراير فور إعلان المخلوع رضوخه لإرادة الجماهير وتخليه عن الحكم. على أن أكثر ما يميز القطيعة مع يوليو وتخطيها يكمن في المعنى الجديد الذي حملته أعلام البلدان العربية التي كثيرا ما رأيناها في مليونيات ميدان التحرير. فكما كتبت الصديقة العزيزة ريم سعد في واحدة من تدويناتها الثاقبة، حملت تلك الأعلام معاني جديدة غير تلك التي عبر عنها أوبريت "وطني حبيبي الوطن العربي" لعبد الوهاب والتي حفل بها خطاب القومية العربية الناصري. فالتعاطف مع تونس وليبيا واليمن والبحرين وسوريا والتلويح بأعلام تلك البلدان في ميدان التحرير، بالإضافة طبعا لعلم فلسطين، لم يكن تعبيرا عن الشعور بالاشتراك في اللغة والعرق والدم والتاريخ. إن الأعلام العربية التي رأيناها في التحرير كانت انعكاسا لقومية عربية مختلفة عن تلك التي عهدناها في الستينات، قومية مبنية على الشعور بأننا نتطلع لمستقبل واحد، مستقبل خالٍ من القهر والطغيان، وليست قومية مبنية على الاعتقاد بأننا ننحدر من أصول واحدة في العرق والدين واللغة والتاريخ. إن الاشتراك في الأمل، لا الدم، وإن التطلع لنفس المستقبل المشرق وليس التمسك بنفس الماضي التليد هو ما يميز هذا الشعور القومي الجديد. الزحف المقدس نحو الهاوية في دراسته الرائدة "ثقافة الهزيمة" الصادرة عام 2001 حلل الكاتب الألماني فولفجانج شيفيلبوش أسباب ونتائج ثلاث هزائم منكرة في التاريخ الغربي: هزيمة الجنوب الأمريكي في الحرب الأهلية الأمريكية، وهزيمة فرنسا في الحرب الفرنسية- البروسية عام 1870-1871، وهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. يقول شيفيلبوش إن هذه الهزائم لم تكن هزائم عسكرية عادية، بل كانت من العمق والفداحة بحيث لا يجب أن نعتبرها هزائم عسكرية أو ديبلوماسية أو سياسية فقط. إن هذه الهزائم في نظر شيفيلبوش كانت هزائم أنظمة اجتماعية وسياسية وثقافية قبل أن تكون هزائم عسكرية أو سياسية. لذا يرى أنه لم تكن مصادفة أن تعقب هذه الهزائم إما ثورات عارمة أو اضطرابات عميقة طويلة يحاول بها المجتمع أن يفسر ما حدث ويعيد ترتيب أوراقه ويسبر غور المصيبة ويعيد التقاط أنفاسه. إنني أعتقد أن هزيمتنا في 1976 كانت على نفس مستوى هذه الهزائم، إن لم تكن أفدح. صحيح أن ميزان القوى – عسكريا واقتصاديا وديبلومسيا – لم يكن في صالحنا وأنه بهذا المعني فالهزيمة كانت مؤكدة. وقد كُتبت العشرات من الكتب التي حاولت رصد أسباب الهزيمة، لكن التساؤل الذي لم نستطع الإجابة عليه حتى الآن هو لماذا كانت الهزيمة بهذه الفداحة وبهذه السرعة. أن تهزمنا إسرائيل المدعومة من الولاياتالمتحدة فمفهوم، أما أن نفقد سلاح طيراننا في عشرين دقيقة وأن نفقد 90% من معداتنا وأسلحتنا وأن تضيع سيناء في ستة أيام وأن يتم الانسحاب بهذاه الطريقة العبثية – هذا هو السؤال الحقيقي الذي ما زال يبحث عن إجابة. إن هزيمة 67 لم تكن هزيمة عسكرية أو سياسية فقط بل كانت هزيمة نظام، نظام سياسي واجتماعي وثقافي. وكان من المفترض أن نشهد في مصر (وفي غيرها من البلدان العربية) ما شهدته المجتمعات الأخرى التي منيت بمصائب مشابهة: إما ثورة أو انقلاب قصر أو نظرة عميقة للذات يقوم بها كل المجتمع وليس فقط حفنة من مثقفيه وشعرائه وكتابه. ولكننا وعلى عكس ذلك نزلنا للشوارع والميادين يومي 9 و10 يونيو نطالب المسئول عن الهزيمة الذي اعترف بمسئوليته أن يرجع عن قرار تنحيه. هذه لحظة فارقة في تاريخ الشعب المصري وفي تاريخ نظام يوليو قام بدراستها شريف يونس في كتاب آخر رائع له، "الزحف المقدس". وقد تمكن شريف يونس من نقد السؤال التقليدي عن هذه اللحظة، أي السؤال الذي يقول: "هل كانت مظاهرات 9 و10 يونيو عفوية أم منظمة من قِبل النظام؟" وعوضا عن ذلك، حاول شريف يونس أن يطرح سؤالا مغايرا "كيف يمكن لنا أن نقرأ مظاهرات 9 و10 يونيو على أنها تجسد نظام يوليو وفلسفته خاصة فيما يتعلق بمفهومي "الشعب" و"الزحف المقدس"؟ ومع وجاهة القراءة التي يقدمها شريف يونس لتلك المظاهرات الغريبة، فأنا أرى أن ما شهدناه يومي 25 و28 يناير 2011 كان ما يجب أن يحدث يومي 9 و10 يونيو 1967. وبالتالي فإن ثورة يناير كانت، في أحد معانيها، ثورة على الهزيمة المروعة التي منينا بها في 1967. وبعبارة أخرى أظن أن ثورة يناير كانت ثورة على المنظومة التي أدت بنا إلى هذه الهزيمة المنكرة. إن النظام الذي أراد الشعب إسقاطه هو النظام الذي أنتج الأسباب التي أدت لهزيمة مثل تلك التي وقعت عام 1967. هذا النظام لم يسقط، وقد حاول السادات ومن بعده مبارك إيهامنا أن حرب أكتوبر محت آثار حرب يونيو، وأن عبور القناة في 73 كان بمثابة تخطي هزيمة 67. ويحاول العسكر الآن التأكيد على أن انتصار أكتوبر يؤسس لشرعيتهم وأنهم لا علاقة لهم بهزيمة 67. ولكن إذا صح أن الهزيمة لم تكن هزيمة عسكرية فقط بل كانت هزيمة نظام سياسي واجتماعي وثقافي، وأظنه صحيحا، فكان يجب على المجتمع المصري أن يتوقف ليسأل نفسه: كيف حدثت هذه الهزيمة؟ ولماذا جاءت بهذه الفداحة؟ الموضوع يتعدى محاكمات ضباط الطيران أو إطاحة بعض الرؤوس. الموضوع أعمق من ذلك بكثير. فهزيمة بهذا العمق والقدر يجب أن تكمن جذورها في منظومة فكرية ومؤسسية وسياسية عميقة. إن هزيمة بهذا العمق لا بد أن تكون نتيجة عوامل عدة من أهمها إغلاق المجال السياسي أمام الشعب، ومنع الشعب من المشاركة في إدارة بلده، ووضع العراقيل أمام ممارسة الشعب لحقه في فرض الرقابة على المؤسسات التي من حقها أن تمارس القمع باسمه وليس عليه، أي الشرطة والجيش. عندما هبت الجماهير مطالبة بإسقاط النظام في يناير 2011 لم تكن تعبر فقط عن اعتراضها على بعض قضايا الفساد المالي الذي شهدته حقبة مبارك، أو على مشروع التوريث الذي سعت له سوزان ثابت مع ابنها جمال، أو على شيوع ممارسة التعذيب في أقسام الشرطة في طول البلاد وعرضها. الناس ثارت على ذلك كله، صحيح، ولكنها ثارت أيضا على ما هو أعمق وأقدم من ذلك. إن النظام الذي طالبت الجماهير بإسقاطه هو النظام الذي أرست قواعده ثورة يوليو، نظام قام على الادعاء بحفظ كرامة الشعب ولكنه امتهن كرامة أفراد هذا الشعب؛ نظام قام على تطبيق دكتاتورية الشعب بينما منع أفراد هذا الشعب من ممارسة أبسط حقوقهم السياسية؛ نظام تعالى على الشعب وطالبه بالانخراط في زحف مقدس فما كان منه إلا أن زحف بهذا الشعب نحو الهاوية. لا عجب إذن أن يهب الشعب مطالبا إسقاط هذا النظام.