"مفهوم العقل" كان وما يزال أحد أكبر موضوعات اهتمامي وقراءتي وبحثي. ولا يلفت نظري في النتاج الفكري لأي مفكر شيء قدر ما يلفتني مفهومه للعقل. بالنسبة لمفهوم العقل عند المسيري، نلاحظ أن المسيري وصف رحلته إلى الإيمان بأنها "رحلة عقلية لم تساهم فيها الجوانب الروحية أبدا". أي أنه—على مستوى التنظير الواعي— يقول أن الوصول للإيمان بالعقل أمر ممكن. لكنه في مكان آخر، يقول أن العقل "مقولة عائمة" وأن هناك مستوى إدراكيا يأتي قبل العقل، ويقوم بتوجيهه وهو ما أسماه "الفلسفة الكامنة". فالرؤية الوجودية— إيمانا أو إلحادا— تتحدد على مستوى هذه الفلسفة الكامنة، الذي هو أعمق من العقل، ويقوم العقل بعدئذ بالتنظير لهذه الفلسفة والبناء عليها والاستدلال لها. في حديثه عن رحلته إلى الإيمان، يشير إلى أن أحد أهم دوافع تلك الرحلة هو الحاجة إلى نقطة مرجعية خارج الإنسان والوجود الطبيعي. لأنه من دون هذه النقطة فإن الكون ينبغي أن يكون قابلا للتفسير بنفسه من داخله، وهو ما وقف المسيري على استحالته، لأن الوجود يحتوي ظواهر بالغة التعقيد لا يمكن ردها إلى المادة، وأهمها النزوع الأخلاقي الفطري، المتجلي في التضحية والأمومة ومساعدة الآخرين دون مقابل، أي أنه دليل أخلاقي كانطي بالأساس. وفي كتابه "اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود"، يلاحظ المسيري أن اللغة الإنسانية بطبعها متجاوزة، وأن بين الدال "اللفظ" والمدلول "المعنى" مسافة ما، فلا هما ملتحمان كما تفترض اللغة الأيقونية المنطقية، ولا هما منفصلان تماما كما يفترض التفكيك. أي أنه يشير بطريقة ما إلى أن اللغة— التي يصاغ بها المنطق العقلي—لا يمكن أن تدل دلالة مغلقة مكتملة على مدلولها، وبالتالي وجود فراغ ما من المنطق إلى الحقيقة الفعلية ، يقوم الإنسان بجسره من خلال المجاز، أي من خلال ما تثيره اللغة من ذوق ومعنى باطني فوق غايتها التواصلية. كخلاصة، يبدو إيمان المسيري مستندا بالأساس إلى عجز العقل المنطقي المجرد، وفعالية العقل الأخلاقي، وقليل من العقل الذوقي العرفاني الصوفي. وإن لم يفسر إيمانه هكذا بطريقة واعية .. والله أعلم.