حقاً كانت "نكبة" كبرى حين نجح الصهاينة في منتصف أيار/مايو 1948م في إعلان قيام كيانهم على أرض فلسطين، وفشلت قوات 6 دول عربية (مصر، والعراق، والأردن، ولبنان، وسورية، والمملكة السعودية) في التصدي للعصابات الصهيونية، حتى انتهى الأمر بظهور الدولة الصهيونية (إسرائيل) وبقائها 64 سنة حتى اليوم! وقد اعتاد مؤرخونا أن يلخصوا أسباب النكبة في تواطؤ الاستعمار البريطاني مع العصابات الصهيونية والذي قابله عجز وتخاذل من حكام العرب في تلك الأيام، وخيانة بعضهم للقضية، زاد منه غياب الجماهير العربية عن معادلة الصراع بغياب الديمقراطية والحكم الرشيد عن الأقطار العربية جميعها؛ وأخيراً ضعف تسليح الجيوش العربية، وافتقارها للقيادة والخطط الموحدة، في مواجهة العصابات الصهيونية الأكثر عدداً والأقوى تسليحاً وتدريباً، والأكثر وعياً بأهدافها واستراتيجيتها. لذا لم يكن غريباً أن ينهزم العرب الضعفاء المشرذمون المتخاذلون، ويضيع 78% من فلسطين رغم أن قرار التقسيم الذي رفضه العرب وقاتلوا لمنع تنفيذه لم يكن يمنح الصهاينة أكثر من 56% من أرض فلسطين!! ولندرك حجم "النكبة" وفداحة نتائجها دعونا نتخيل أن القوات العربية نجحت في هزيمة العصابات الصهيونية عام 1948م، وأجهضت من ثَم قيام الكيان الصهيوني، وأن العرب عاشوا الأربعة والستين عاماً الماضية بغير أن يجدوا "إسرائيل" في وسطهم، وبغير أن يخوضوا حروبا معها، وأن الفلسطينيين لم يشردوا من ديارهم، وعاشوا كباقي الشعوب. لاشك أن ثمن "نكبة 48" كان باهظاً، وأن الأجيال العربية التالية ما فتئت تدفعه مضاعفاً حتى اللحظة، ولكن النكبة الأكبر-في ظني- وقعت حين قرر حكام العرب مجتمعين في بيروت سنة 2002م أن يفعلوا ما لم يفعله أسلافهم على مدار التاريخ، فأعلنوا عما يسمى" المبادرة العربية"، التي يعترفون فيها بحق الصهاينة في إقامة كيانهم على 78% من أرض فلسطين، وبحق ذلك الكيان في البقاء وإقامة علاقات طبيعية مع كل الدول العربية، ففي "النكبة الأولى" انسحبت الجيوش العربية من الميدان وبقي أمل العودة وتحرير فلسطين قائماً، أما في "نكبة بيروت" فقد أنهى حكام العرب رسمياً الأمل في تحرير ما اغتُصب عام 1948م، وصار منتهى أملهم أن يمنحهم الصهاينة ما احتلوه في 5 يونيو 1967م، على أن يمنحهم العرب في مقابله الاعتراف الجماعي و"التطبيع"! لذا فأرجو ونحن نستعيد ذكرى "النكبة الأولى" ألا ننسى "النكبة الثانية" فهي أكبر وأخطر.