كما عودنا المجلس العسكري الذي يتولى أمور البلاد منذ 11 فبراير 2011، أن يتعامل مع المشهد السياسي بالمزيد من الغموض والتخبط والمفاجآت (الحزينة والسعيدة على حد سواء)، وليس ببعيد عن هذا المشهد قرار إلغاء اتفاقية تصدير الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني، الذي تفاجئ به الجميع يوم الأحد الماضي. ورغم أن القرار تأخر سنوات أو على الأقل توقعه المصريون خلال الشهور التي انقضت بعد نجاح ثورة 25 يناير 2011، إلا أن جميع المصريين الذين كانوا ينتظرون هذا القرار، لم يروق لهم الطريقة التي تم بها الإعلان عن الخبر أو توقيته وكذلك عدم الوضوح الذي شاب القرار وما زال يحير الجميع. وهذا الغموض الذي تم به اتخاذ هذا القرار والإعلان عنه، حيث اطلع عليه معظم المصريين من الاعلام العبري وليس المصري، فتح الباب أمام الكثير والكثير من التأويلات والتفسيرات والتخوين وضرب أخماس في أسداس، وذلك من جميع الأطراف المصرية والصهيونية وحتى الأطراف البعيدة والمتابعة للقضية. صراع داخلي فقد زعمت صحيفة "هاآرتس" العبرية أن الصراعات الداخلية في مصر هي سبب إلغاء الاتفاقية، مشيرة إلى أن صمت تل أبيب على القرار المصري سيحصد ثمناً سياسياً رغم أن العقد الثلاثي المبرم بين الدولتين ليس له صلة باتفاقية كامب ديفيد. وذكر المحلل أفي بار إيلي في مقالته بالصحيفة أنه بعد الإعلان الدراماتيكي لشركة ايجاس للإلغاء أحادي الجانب للعقد ارتدت تلك الخطوة المفاجئة ثوباً غامضاً غير واضح المعالم، على غرار كل التصرفات المصرية منذ ثورة ال 25 من يناير. وقال :"رسمياً، تم تبرير الإعلان أحادي الجانب لشركة EGAS بالديون المالية لشركة EMG مقابل الغاز الجزئي الذي تم ضخه لإسرائيل منذ التفجير الأول لأنبوب الغاز في فبراير 2011"، مشيراً إلى أنه رغم التفجيرات المتكررة والمتوالية تمكنت دولة الاحتلال من الحصول على الغاز المصري على مدار 150 يوماً تقريباً بمعدل متوسط 20% من الكمية المنصوص عليها في العقد، وبناء عليه تطالب شركة EGAS شركة EMG بدفع 56 مليون دولار، لكن الأخيرة التي أصبحت خزانتها خاوية وبدأت إجراءات تحكيم دولي لا تتوافر لديها السيولة اللازمة. وتابع الكاتب الصهيوني أنه رغم ذلك، فإن العقد الموقع بين الشركتين يتضمن آليات دفع وتسوية خلافات مالية واضحة، وطلب الدين ليس من شأنه أن يؤدي إلى إلغاء أحادي الجانب للعقد، فلماذا اختارت شركة الغاز الحكومية المصرية EGAS هذا الإجراء العنيف؟، وأجاب بأنه في دهاليز الحكومة المصرية يسود توتر واحتقان بين دواوين الحكومة والسلطات الرسمية فيما يتعلق بإدارة اتفاق الغاز مع EMG، من ناحية بسبب الشبهات في وجود فساد سلطوي في الاتفاق ورغبة كل العناصر الضالعة في العقد للتنصل منه، ومن الناحية الأخرى بسبب إجراءات التحكيم التي بدأتها شركة EMG في سويسرا ضد الحكومة المصرية، والتي من شأنها أن تضر بمكانة مصر بين أسرة الأعمال الدولية. الأبعاد السياسية ولا يستطيع أحد من المتابعين إنكار أن قرار وقف ضخ الغاز المصري بسبب تأخر تل أبيب عن سداد ديونها، يحمل من الوجوه السياسية أكثر، مما يحمل من الوجوه الاقتصادية، والقرار لا شك يجد صدى شعبياً، خاصة أن مصر تواجه أزمة وقود، بينما تضمن أمن دولة الاحتلال من الوقود بغاز رخيص يحتاجه المصريون بشدة، وكان تصدير الغاز لتل أبيب أحد ألغاز السياسة المصرية التى تستعصى على الحل. وجاءت تصريحات المشير محمد حسين طنطاوي، التي أكد فيها أن جيش مصر لا يعتدي على الدول المحيطة، لكنه سيصد أي اعتداء على أرضه وسيكسر القدم التي تقترب من الأراضي المصرية، خير دليل على الأبعاد السياسية للأزمة. فقد طالب طنطاوي أفراد الجيش بالانتباه للمخططات التي تحاك ضد القوات المسلحة، لصرفها عن دورها الرئيس، وقال :"كان الإدعاء منذ قديم الزمان أنه يجب التركيز على مقاومة الإرهاب، لكننا نقول: لا، فالجيش سيستمر حاميًا لمصر"، مشدداً على أن :"القوات المسلحة لا تدخل في السياسة، ولسنا سياسيين، ولا تسمحوا لأحد أن يجر قواتنا إلى فئة أو جهة معينة أو يحولها إلى قوات سياسية، فنحن ملك للشعب الذي يثق بنا، ويقف وراءنا فهذا هو الخط الأحمر للجيش المصري، ومصر أمانة في عنق القوات المسلحة من أصغر فرد إلى أكبر فرد". من جانبه، أكد اللواء أركان حرب محمد فريد حجازي قائد الجيش الثاني الميداني قدرة القوات المسلحة على تأمين سيناء ضد أي عدوان أو فرد أو جهة، تسول لها نفسها الاعتداء عليها، وأنها تتدرب وباستمرار تحسبًا واستعدادًا لأي مواقف، وأن على الجميع أن يتذكروا، ويعيدوا حساباتهم قبل التفكير في الاعتداء على أية بقعة من أرض مصر، مؤكدًا أن المقاتل المصري يؤمِّن الحدود الشرقية للبلاد. وفي تعقيبه على تصريحات طنطاوي، شن الإعلام العبري حملة على هذه التصريحات ووصفوها ب "العدوانية"، وذكر موقع واللاه العبري :"الرجل الأقوى فى مصر يحذر إسرائيل، حين رد بأسلوب شديد اللهجة على تصريحات وزير الخارجية افيجدور ليبرمان، قائلا إننا سنكسر يد من يحاول الاعتداء علينا، أو يحاول الاقتراب من حدودنا، إن قواتنا المسلحة قوية ضد أعدائنا من الخارج، وضد من يحاول العبث بمقدرات هذا الوطن العظيم من الداخل". ولفت الموقع إلى تصريحات د.فايزة أبو النجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولى التى قالت فيها :"لا مانع لدى مصر من التوصل إلى عقد جديد، بشروط جديدة، وأسعار جديدة، لإعادة تصدير الغاز إلى إسرائيل". مزيد من الغموض ولو أخذنا من تصريحات أبو النجا، سوف نرجع إلى المربع الأول؛ حيث إن السلطات المصرية ليس لديها مانع من حيث المبدأ في تصدير الغاز إلى الكيان المحتل، لكن المشكلة في الأسعار، بمعني أنه في حال تعديل بنود الاتفاقية بما يضمن ارتفاع المقابل المادي الذي تحصل عليه مصر مقابل تصدير الغاز إلى تل أبيب، فلن يكون هناك ما يمنع من تجديد التعاقد، ونعود بذلك إلى الدخول إلى دائرة مفرغة من الغموض والحيرة يعلم الله وحده متى وإلى أي شيء ستنتهي.