استمراراً لفعالياتها التثقيفية والتدريبية نظمت مجموعة " حراك" ( مبادرة تعني بشكل رئيسي بدعم الفاعلين المجتمعيين والسياسيين بأدوات الفعل المجتمعي والسياسي عن طريق أدوات معرفية وتثقيفية بالأساس) بالتعاون مع فريق "بناء" ندوة هامة بعنوان "إشكالية التحيز" يوم الأربعاء 18 إبريل بمؤسسة أحرار، حاضر فيها الدكتور أسامة القفاش، الكاتب والمترجم وأستاذ الدراما وفلسفة الجمال وتاريخ السينما بعدة جامعات عربية و أوروبية منذ عام 1992 القفاش أيضا هو أحد أهم تلامذة الدكتور عبدالوهاب المسيري، حيث شارك معه في موسوعتيه الأشهر ( فقه التحيز) و(اليهود واليهودية والصهيونية)، لذا بدأ حديثه بتأريخ علاقته بالدكتور المسيري، وارتباطه معه ومشاركته في الكتابة عن التحيز. القفاش وصف الدكتور المسيري ب (الفيلسوف المرئي) الذي يرى العالم بفلسفة مرئية، ومن خلال منظومة النماذج، وهو الأمر الذي يفسر جزءاً منه تذوقه الجيد للفن التشكيلي والسينما والمسرح. القفاش ذكر بأنه تعرف على الدكتور المسيري عام 1991 حينما رجع من السويد حيث كان يدرس الدراما، وجاء التعرف حينما كان يعمل القفاش في الأوبرا المصرية حينها، ليتحدثا سوياً بعد لقاء جمعهما حول موضوعات عدة اشتبكا فيها سوياً، ليطلب المسيري من القفاش أن يكتب معه في موضوع"التحيز" ومن هذا التاريخ، ظلت العلاقة (التي تحولت لعلاقة أبوة ) بين القفاش والمسيري حتى توفي الأخير عام 2007 القفاش يستعرض تأريخ علاقته بمسألة "التحيز" لإنها اثرت فيه بشكل كبير، في طريقة كتابته، وطريقة رؤيته للعالم يراها كأنها بمثابة (كشف رباني) أدرك منه رؤية ونظرة مختلفة للكون والأحداث والعلاقات والخطابات والأفكار. القفاش الذي كان مشغولاً (كما أخبر د.المسيري) بقضايا مثل إشكالية العلاقة بين الذاتي والموضوعي، ورفض ما يسمى بفكرة رفض المعيار، رأى أنه يمكن الانطلاق منها للكتابة عن التحيز مع الدكتور المسيري، ليبدأ في كتابة بحثه الأول عن التحيز بالمشاركة مع د.صالح الشهابي، المتخصص في الكمبيوتر والعلوم المعلوماتية، حيث أخرجا سويا بحثا بعنوان " الذكاء الاصطناعي بين الآلي والانساني"، فلما انتهيا من الدراسة الأولى طلب منه د.المسيري القيام بعمل دراسة أخرى، شارك فيها أيضا القفاش مع صالح الشهابي لينتجا ثاني دراسة لهما عن التحيز بعنوان" اسمها حكماء لا أطباء". ليكتب القفاش بعدهما دراسة عن السينما من نفس المنظور لتصل عدد الدراسات التي قدمها للمسيري إلى 15 دراسة في فقه التحيز( القاموس الأول )، ليقام بعدها مؤتمر شهير حينها عن التحيز في نقابة المهندسين، وكان لنقابة المهندسين في أوائل ومنتصف التسعينات نشاطا فكريا وسياسياً كبيرين، خصوصا مع توجه فكري جيد في مكتب النقابة، والتي كانت أهم رموزه حينها د. سيد دسوقي، ود. صلاح عبدالكريم. فضلا عن أن النقابة كان لها دور كبير حينما أصدرت كتاب التحيز عام 1995، والذي كان له صدى واسع حينها، وكتب عنه كثيرون مثل الدكتور محمد الجوادي، وفهمي هويدي، والذي كتب عنه في كتابه " مقالات ممنوعة"، ثم صدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، كتاب "فقة التحيز" وكان للمعهد نشاط كبير جداً من بينها احتضانه مجموعة من شباب الباحثين حينها، مثل الدكتور أسامة القفاش، ود.إبراهيم البيومي غانم، والدكتورة هبة رءوف وغيرهم. مفهوم التحيز يتناول د.أسامة القفاش كيف ظهر مفهوم التحيز حينما يتحدث عن أن العلوم الانسانية في أوروبا وأمريكا بعد الحرب العالمية أصبحت تعاني من مشكلة التحيز للدقة والموضوعية الشديدة، فضرب مثالا بأحد العلوم الإنسانية وهو علم النفس، والأطروحات النظرية التي رأت أنه من الممكن أن يقترب هذا العلم ل "نماذج دقيقة جدا" علمية قادرة على التنبؤ بالسلوك الإنساني، وهذه المدرسة التي عرفت بالمدرسة السلوكية استطاعت أن تلغي علم النفس ذاته، لإن كل نمط نفسي ارتبط بمفهوم ونمط علمي دقيق لا يمكن الحياد عنه، وكان إسقاط هذا الأمر على السياسة—وفقا للقفاش—أمر غاية في منتهى الخطورة حيث ظهرت الفاشية كتمظهر قوي للحداثة ومفهوم "الدقة"، والتي أرادت أن تنتج للعالم جنس وعرق نقي يتميز بالدقة الشديدة خالي من العيوب والنقائص والأمراض، لينتهي الأمر للحرب العالمية الثانية، وموت الملايين. يتحدث القفاش عن أن تأثير الحرب العالمية الثانية على أوروبا فلسفيا كان مهما للغاية، نتيجة لما رأته أوروبا من حروب ومجازر وأفكار شاذة مثل النازية والفاشية. ثم حدث رد فعل حول مدى ارتباط العلوم الانسانية، وارتباطها بفكرة الموضوعية الشديدة والدقة، بمعنى إلغاء الذاتية لصالح"الموضوعية، والعكس صحيح. وبدأت أوروبا بعد الحرب بسنوات مع الاستقرار السياسي والاقتصادي نتيجة لمشروع مارشال، والهجرات الشديدة أن تعيد النظر في هذه المسائل، وأنتجت أوروبا أفكارا كثيرة أثرت في العالم كثيرا حينها، وكان إحد نتاج هذا الأفكار تفجر ثورات 1968. القفاش يتحدث عن أن التحيز يتم من خلاله فرض أنماط ومسلمات بعينها، ك"الأيزو" الذي من خلاله ندرك أن المصنع الفلاني لن يدخل المنظومة الرأسمالية الفلانية إلا بتطبيقه، رغم أن نفس المنتجات يتم إنتاجها ( وفي الأغلب) بشكل أكثر جودة قبل تطبيق "حكاية الأيزو"! ولو بحثنا أكثر في موضوع "الأيزو" سنجده يصب في إطار مصالح اقتصادية، وبشر يريدون منا أن نسير وفق رؤيتهم الاقتصادية وفقط. مسلمات تاريخية يتم فرضها علينا في كتب التاريخ، ويتم اجترارها وتكرارها بتحيز وضح بدون أن نعي ملابساتها وظروفها التي أحاطت بها مثل حادثة بكاء أبو عبدالله هشام بن الأحمر عند توقيعه اتفاقية تسليم الأندلس التي ترددت لمئات المرات عند كتاب السير والتواريخ، بدون أن يعي واحد من هؤلاء ظرف الدول الإسلامية حينها، ما بين دولة مصرية قائدها المملوكي رفض نجدة الأندلس نتيجة انشغاله بظرف اكتشاف رأس الرجاء الصالح، ومشرق بأكمله كان يستعد للحرب مع العثمانيين، وعثمانيين لم يلبوا استغاثة إبن الأحمر، وملك مغربي لم يعد قادرا على دعم إبن الأحمر وحده ضد ملوك قشتالة والأرجون، فكان الظرف الموضوعي حينها أن يعقد إبن الأحمر اتفاقية تسليم "غرناطة" للحفظ دم المسلمين وأعراضهم، يضيف القفاش :" بل وحفظ دماء اليهود أيضاً، والذين بعد سنة كاملة أجبروا على الدخول في الديانة المسيحية، أو تحويلهم لمحاكم التفتيش الأسبانية". من هنا، يرى القفاش أن قبولنا بمسلمة تاريخية رومانسية، قدمت على أنها الواقع، وهي ليست على الأكثر سوى تحيزات الكاتب أو لمؤرخ ليعاد تكرارها وترديدها بدون الوعي بظرف وسياقها التاريخي والواقعي حينها. التحيز وأنواع الخطابات القفاش تحدث عن أن الخطاب يعني المنتوج الإنساني من الأقوال والأفعال، والتي جزء كبير منها غير مدرك، ونقوم بفعله غالبا ضد مصالحنا، وقسم القفاش الخطابات إلى: الخطاب العلموي، وهو خطاب يمتلأ بمصطلحات علمية كثيرة، لكن الخطاب نفسه غير ذات دلالة، مثل حديث ما يطلق عليهم (الخبراء الاستراتيجيين) الذين يتحدثون طوال الوقت في الصحف والفضائيات، مثل كلام أحدهم عن أن غرقى السفينة من الشباب المصريين الذين كانوا يريدون السفر لإيطاليا بحثا عن لقمة العيش يعانون من ( سيكوباتية ذاتية) أي عدوانية شديدة تجاه ذواتهم، بدون أن يتطرق هذا المحلل أو الباحث عن الظروف الاقتصادية البشعة التي أوصلها إلينا نظام مبارك. النوع الثاني من الخطابات هو"الخطاب الفراغ" وهو خطاب ليست به أي مصطلحات علمية، كما أن محتواه غير ذي دلالة، مثل حديث كثير من نقاد الأدب أو الفن الذين تمتلئ بهم ساحات الصحف والفضائيات، ويتحدث القفاش عن أن الفيلسوف (فوكو) ربط بين النص والسلطة، بمعنى أن النص المتكئ على سلطة ما يتم ترويجه والقبول به، والتحيز له وفقا للمصالح الناتجة من قبول هذا الخطاب أو رفضه. وأن رفض الخطاب من عدمه يرتبط بالضرورة أيضاً بنسق المنظومة القيمية التي ينتمي لها المرء، وتجعله يتجاوز سلطة منتج النص. وضرب القفاش مثالا على "الخطاب الفارغ" بقصة حدثت لأحد تلامذته، والذي أصيب في أحداث ( محمد محمود) حينما قابله بائع فول ليقول له أن أحداث محمد محمود صارت "خرابا على مصر، لإنها أسقطت البورصة المصرية"، حينها قال له تلميذ القفاش :" وهو لو سطقت البورصة يا عم عبده بيتك إنت هيتخرب، يا عم عبده لو الاقتصاد المصري صحيح هيتراجع أنت أول المستفيدين، لإن الناس ستترك اللحم وتقبل على شراء الفول حينها". عم عبده بائع الفول يعيد إنتاج النص الفارغ الذي سمعه تحت سلطة صاحب إنتاج النص، سواء كان سياسي في حارته، أو محلل استراتيجي في فضائية. ثم يعرج القفاش على الخطاب الثالث وهو "الخطاب الاستغاثي" أو التحذيري وتمتلئ به أغلب الخطاب والكتابات السياسية خصوصا في خطابات جماعات الإسلام السياسي، وعند تفكيك بعض سمات هذا الخطاب، نراه يتمظهر في أن العالم ينقسم إلى قطبين الأنا الطيبة والآخر الشرير. ولابد من انتصار أحدهما وانتهاء الآخر، والآخر دائما يتآمر على الأنا "الدش والانترنت وسائل الغرب للسيطرة على شبابنا"، والآخر دائما يريد تدمير الأنا :و الهدف: عرب بلا ذاكرة، والاخر دائما شيطان ولكن الأنا التحذيرية تعرفه وتفضحه. ثمة مباراة صفرية تدميرية لابد من خوضها. معركة تذكرنا بالمعارك الاسطورية مثل «الأرمجدون» التي تنتظرها الجماعات الاصولية المسيحية. لا مجال للتركيبية هنا ولا للعلاقات الانسانية المعقدة ذات الطبقات المتراتبة في المصالح المتشابكة. ثمة وضوح في الرؤية «آخر شرير وأنا طيبة». وهذا الوضوح لا يعني الواقعية ولكن يعني ببساطة التبسيط والتسطيح.