البيعة على التأبيد، لشخص يمتلك كل السلطات في يده، ولا راد لإرادته. تلك هي سمة الخلافة القديمة الأبرز، وسمة كل ملك قديم في عصور الامبراطوريات، والتي تجاوزها العالم. وطريقة الحكم هذه لم تعد عودتها منظورة ولا مأمولة ولا مقبولة في أي بقعة. لكن على خلاف الدنيا من حولنا، نجد أن الخلافة القديمة (وتلك اليوتوبيات الإمبراطورية العظيمة) يروج لعودتها بعض السلفيين النصوصيين. ويطنطنون بحلمها البراق لجمهور يشعر بالقهر من نظم الاستبداد ومن هيمنة الاستعمار المستتر، ويبحث عن خلاص في الدين ودولته. الواضح أن هذه الخلافة، بسماتها التي تقرأها وتسمعها، لم تكن مرغوبة حتى بين كبار من قدموا رؤى تجديدية للدولة الإسلامية، والذين يدفعون بمقولاتهم لترسيخ هذه القصة الغائمة. فغالب من يتحدث عن دولة إسلامية يبطنون حقيقة تجاوزنا للتجربة السياسية في عصور الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، ولا يصرحون بها. وكل حديثهم عن دولة إسلامية هو حديث عن يوتوبيا جديدة، وليس استعادة لليوتوبيا القديمة بأي حال. واليوتوبيا الجديدة تلك خليط عجائبي. فما نقرأه في كتابات من طرحوا مشروعات إسلامية من مفكري القرن العشرين مختصره أن غاية المراد هو دولة مؤسسات يحكمها القانون. وإن قُعِد هذا القانون وفقاً لمرجعية مستقرة بمبادئ الشريعة الإسلامية التي تم تجريبها، وحكمت مصالح الناس بموجبها. لكن من حيث البنيان السياسي، لن يمكن أن نرى إلا دولة مغايرة تستفيد من التجربة السياسية العالمية وتطورها أكثر مما تستفيد من تاريخ الخلافة في الإسلام أو مما أفرزته التجربة الإسلامية منذ البعثة النبوية وحتى انتهاء ملك العثمانيين. من الاستحالة استدعاء الخلافة على نمطها الغابر، وكل حديث عن هذه العودة ليس إلا مخاتلة، فلا مجال لاحيائها ولا حتى وفق اقرب أشكالها لنا تلك التي عرفتها تركيا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (في عصر التنظيمات)، وهيمنت بها على عالم الإسلام. وما نراه من نزوع البعض من نجوم السلفية للطنطنات المتفيقهة، واستدعاء الترسانة النصوصية لوجوب الخلافة لن يسترا تهافت كلامهم الأيديولوجي. والمأساة أنهم بسبب الخوف من الاعتراف بضرورة تجاوز هذا الخطاب الايديولوجي الذي روجوا به دعوتهم، وأسسوا به لوجودهم السياسي، يروجون لطروحات شائهة مائعة عن نظام للحكم في مصر وغيرها من بلدان الثورات في العالم العربي يسمونه إسلاميا، أو في أفضل الأحوال مدنيا بمرجعية إسلامية. وقوام برامجهم نراه مجرد خلطة عجائبية، تلفق قديما لم يعد موائما، بجديد مجرب وثابت نجاعته. فلا هم قدموا طرحا عصريا جديدا غير المعروف لدينا، ولا اعترفوا بأن الاستفادة مما هو مطروح من تجارب هو الحل القائم والعملي. ونخشى أنه بميل الناس لهذه المخاتلات وإقرارها عبر صندوق الاقتراع قد نجد أنفسنا أسرى لردة سياسية من شأنها أن تقفز بنا القهقرى لما دون التطور الراهن الذي تعرفه الدول المستقرة ذات النظم المقيمة للعدل وحكم القانون والتي تعلو فيها سلطة الشعب. وتضعنا تصورات -غير مجربة تجربة معتبرة- مثل هذه في مأساة. وسنجدنا جميعا نغض الطرف عما نعرفه من دروس التجربة الإنسانية في الحكم وإدارة شئون المجتمع. وربما ندخل في أزمة للديمقراطية ذاتها. ونسأل إذا كانت الديمقراطية عاجزة عن ترشيد الخيارات السياسية فما هذ الآداة الأكثر نجاعة، هل نرتد للاستبداد لمنع الاستبداد. الحل إذن في حركة مجتمعية كاشفة، وحركة فقهية من قبل الأزهر تحطم هذه الموجة من المخاتلة والخداع باسم حلم يوتوبي لا منطق لاسترجاعه، وفي عودته وفق شروطه القديمة مأساة شيطانية. ولا سبيل لأن تأتي هذه الحركة من بين أوساط هؤلاء المروجين لأيديولوجيا الخلافة القديمة. فقادتهم من المشايخ -خصوصا من المنخرطين حديثا في السياسة وتراود بعضهم طموحات قيادة الدولة- ليست لديهم تلك الجرأة الفقهية التي ترى الواقع، وتدرك حقائق تجاوز التجربة التاريخية للخلافة. ومن ثم لم نسمع أيا منهم يعترف بحسم أن خليفة على النمط القديم لم يعد رجوعه ممكنا ولا مطروحاً، وأن ما تبقى من فكرة الخلافة وتجربتها، ويستحق التجربة هو الوصول لبنية عدلية وقانونية تستقي الشرع من منظور حديث يستوعب التطور القانوني في العالم المتقدم، ويمكن من خلالها التأسيس لرابطة عابرة للدول ووحدة إسلامية. هذا هو المتاح الذي يعمون عنه، ولهذا يعجزون عن تجديد الفكرة الإسلامية والانتقال من الخلافة القديمة ونظامها وخصائصها وبنيتها للبناء على رمزية الخلافة لا الخليفة، أي فكرة الجامعة الإسلامية لا غير. على الجميع إدراك حقيقة أن أمر الدولة صار يجاوز المعتقد الضيق الراسخ لدي بعضنا. ففي عالم لم يعد فيه باب للفتوحات والغزو وتغيير خرائط العالم، يبقي للدين وكل الأديان دور هداية ودعوة وحوار، لا غزو ولا مغالبة، وينتظر من أهل الأديان مساهمة قوية وحقيقية في اقرار القيم العالمية واستعادة الأخلاق لعالم السياسة ومحاربة آفات النفس البشرية التي تخلق نظما وحشية تغبن الإنسان وتقهره، تأتلف مع الحركات ذات الطابع الإنساني التي تناهض الرأسمالية المتوحشة، والتمييز، والاتجار بالبشر، والافقار، وغيرها، من أجل نهضة الإنسان. أقول هذا لأنني أخاف أن هذه الأفكار الماضوية غير المجربة وغير المدروسة التي يلوكونها، وتلك الوعود والتهاويم عن "دولة إسلامية جديدة" أن تصير محوراً للتجاذب عند وضع دستور مصر. لو جرى هذا سيضيع وقتنا، وينتهي الأمر لنتيجة تكشف كيف أن حديث الخلافة الإسلامية ودولة المسلمين وفق التصور السلفي ليس إلا مجرد فقاعة أيديولوجية. لكنها نهاية ستكون مكلفة، تستهلك كثيرا من طاقة المصريين وتأتي على حساب أوضاعهم ومستقبلهم.