وعدتُ القراء قبل أسبوع بالحديث عن كتاب هذا اليهودى الصهيونى نوح فيلدمان Noah Feldman الذى يدافع بشراسة فى كتاباته الأخيرة عن سياسات محمد مرسى وقراراته التى قسمت الشعب المصرى، وأثارت ما أثارت من اضطرابات. وقد جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكى الجديد، جون كيرى، الأخيرة لمصر وتدخله السافر فى الشأن الداخلى المصرى لتؤكد ما سبق أن كتبته، وهو دعم الإدارة الأمريكية لإدارة مرسى وحكم الإخوان لتحقيقه مصالحها، وذلك بسبب تحوله وبسرعة يحسد عليها إلى الذخر الاستراتيجى لها ولربيبتها فى المنطقة. ومع أن الكتاب الذى أعنيه، وهو كتاب (انهيار وصعود الدولة الإسلامية The Fall and Rise of the Islamic State) كتاب أقرب ما يكون إلى البحث الأكاديمى فى طبيعة السلطة والقانون الدستورى، فإن عرضه على القراء ثم مناقشة ما جاء فيه وما تنطوى عليه مضمراته من مشروعات أمر مفيد لسببين: أولهما أنه يكشف لنا أهمية القانون، ودستورية أى حكم وشرعيته كى يستمر هذا الحكم ويحظى بالقبول من شعبه، وثانيهما أنه يؤكد لنا ضرورة توفر الأساس العلمى والمعرفى لأى قرار سياسى يسعى لأن تكون له مصداقية. كما يتيح لنا معرفة سر دعم المحافظين الجدد الصهاينة فى أميركا لحكم الإخوان فى مصر، والأساس المعرفى والأيديولوجى لهذا الدعم. وقد صدر هذا الكتاب عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، وهو مؤسسة استشارات أمريكية من النوع المسمى Think - tank تأسست عام 1921 وتسعى لأن تكون مصدر معرفة أعضائها من صناع القرار والمسؤولين الرسميين، ورجال الأعمال والصحفيين وحتى الباحثين المتخصصين بالقضايا الحيوية، كى يسهموا فى تحديد اختيارات السياسة الخارجية التى تواجه الولاياتالمتحدة، والتى تحقق مصالحها فى العالم. إذن فنحن لسنا بإزاء كتاب عادى، صدر عن دار نشر عادية، أو بحث أكاديمى يبتغى وجه المعرفة المجردة، وإن كان ينطوى على الكثير من سمات هذا النوع من البحوث. ولكنه كتاب يتذرع بالغطاء العلمى والموضوعية كى يحقق أهدافا سياسية واضحة. صدر عن مؤسسة تهتم بالتأثير على اختيارات صناع القرار الأمريكى، وتسخِّر البحث العلمى لخدمة القرار السياسى والأهداف التى تحققه، كما تقول أهدافها المطبوعة فى صفحة معلومات الناشر وسياسته فى الكتاب، المصالح الأمريكية فى العالم. ولهذا السبب يكتسب الكتاب أهمية خاصة كوثيقة من وثائق البحث الضرورية التى تستند إليها القرارات السياسية وخيارات الإدارة الأمريكية، فى مجتمع يعى أن أول متطلبات الديمقراطية فى المجتمع الحديث، ليس الاستناد الأعمى إلى نتائج الصناديق، كما يتشدقون، وإنما تأسيس كل القرارات والخيارات السياسية على المعرفة والتحليل الدقيق وليس صدورها عفو الخاطر، أو وفق أهواء سياسية لا تصمد للتمحيص من رجل الشارع العادى، ناهيك عن المعارضة التى لا بد أن تستند هى الأخرى فى معارضتها إلى أسس معرفية. ويتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. وتموضع المقدمة البحث من البداية فى سياق الاستثناء من القاعدة. فالقاعدة تقول إن الدول والإمبراطوريات تتكون وتزدهر ثم تتدهور وتنهار. ولكن الكتاب يرى أن لهذه القاعدة استثناءين: أولهما هى الديمقراطية التى ولدت فى اليونان قبل الميلاد ثم انهارت، وعادت للظهور من جديد فى عصرنا، كقهوة كبيرة بسبب سلامة الأسس التى تنهض عليها أيديولوجيتها. والثانية هى الدولة الإسلامية التى يتوق المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها إلى إحيائها من جديد، بعدما انهارت آخر قلاعها قبل قرون. وأن هذا الأمر يحتاج منا إلى تفسير جديد للتاريخ الدستورى الإسلامى. لأن الدعوة المنتشرة فى كثير من البلاد الإسلامية لعودة الشريعة لا تنطوى فحسب على حنين إلى عالم تحكمه قوانين صارمة وواضحة تشكل قاعدة دستورية شاملة، يتفق عليها الجميع ويؤمنون بمرجعيتها. ولكنها تنهض أيضا على ميراث تاريخى استطاع أن يبلور نظام حكم حقق التوازن المرتجى بين سلطة القانون، والتى يجب أن تبقى فوق سلطة كل حاكم وسلطة الحكم. ويكرس الكتاب القسم الأول منه، والمعنون «ما هو الصواب الذى تحقق» أو بالأحرى كيف استطاع حاكم الدولة الإسلامية القديمة أن يحقق سلطة القانون وسيادة الدستور. بادئا بأن التنامى المستمر للحركات السياسية الداعية لتأسيس دولة إسلامية فى بلاد المسلمين التى تحتاج بشكل حاد إلى الإصلاح لم يلفت انتباه الغرب فحسب، بل أيضا النخب العلمانية المثقفة فى تلك البلدان. وخصوصا فى منطقة الشرق الأوسط التى أخفقت فيها الديكتاتوريات الجمهورية منها والملكية فى تحقيق الرخاء لشعوبها، أو بناء قوة عسكرية لبلدانها، أو حتى تأسيس شرعية مقبولة لحكمها. لأن هذا التنامى يطرح سؤلا أساسيا وهو لماذا لا تسعى الحركات السياسية فى تلك البلدان إلى تأسيس ديمقراطيات ليبرالية كما كان الحال فى أوروبا الشرقية. خصوصا أن هناك اتفاقًا على إخفاق الدولة الإسلامية مع انهيار الدولة العثمانية تحت وطأة تخلفها، وعلى أن دولة الاستقلال التى أعقبت الحقبة العثمانية لم تنجح هى الأخرى فى تحقيق ذلك، أو فى تأسيس حكم القانون بما ينطوى عليه من عدل وأسس للشرعية والمشروعية. وهنا يأتى سحر الدعوة للدولة الإسلامية حيث ترتبط فيها العودة للإسلام، وللشريعة بالعودة لدولة القانون والعدل المفقود. فما تفتقر إليه الدولة الحديثة فى معظم البلدان الإسلامية، بلدان العالم العربى خصوصا هو أن ما ينظم المجتمع فيها ليس القانون أو العدل، وإنما القوة الغاشمة التى تنظم السياسة والاقتصاد وحتى المجتمع نفسه. ولذلك فإنه يربط الدعوة إلى الدولة الإسلامية بالعودة إلى دولة القانون والعدل، وهو ما تفتقر إليه كل الدول الإسلامية. هنا يواجه الكاتب مشكلة تبرير الربط بين الدولة الإسلامية ودولة القانون، خصوصا أن ميراث الدراسات الغربية الطويل يربط بين الحكم الإسلامى والاستبداد، منذ أن جعل مونتسكيو الدولة الإسلامية التجسيد المطلق لغياب القانون، وحتى سخرية ماكس فيبر من القاضى الإسلامى الجالس تحت نخلة يحكم وفق ما يراه، ودون أى نص قانونى. خصوصا أن تجليات هذا الحكم فى مراحله الأخيرة فى الدولة العثمانية تجعل ربطه بدولة القانون أمرا مضحكا. هنا يعود الكتاب إلى حكاية ما جرى فى صدر الإسلام ومعنى الخلافة، وكيف أسس السلف الصالح مجموعة القواعد بالاعتماد على الذاكرة، وهى بطبعها خؤون، ولكنه يبرر ذلك بأن إشكالية تأسيس القواعد القانونية فى كثير من القوانين، بما فى ذلك القانون الإنجليزى تتسم بإشكاليات مماثلة. ويواصل بعدها تناول عمليات تأسيس شرعية السلطة الحاكمة فى أزمنة الخلافة المتعاقبة، ومسألة الشورى أو الوراثة والتى كانت إلى حد كبير مقيدة بالبيعة ورضا ذوى الأمر أو أهل الحل والعقد، ودورهم جميعا فى إضفاء الشرعية على الحكم، وتعزيز القناعة بإسلاميته. وقد تطور الأمر إلى نوع من العهد، أو الميثاق أو الصفقة التى بمقتضاها يعلن الحاكم تطبيقه للشريعة، فى مقابل إضفاء الفقهاء والعلماء الشرعية على حكمه. وقد استمر هذا الوضع حتى تتابعت التهديدات على الخلافة الإسلامية من المغول والسلاجقة وغيرهم. ويتعقب بداية التلاعب بالشرعية والشريعة معا إلى الدولة العباسية وإلى كتابات أبو الحسن الماوردى (972 - 1058) التى يعتبرها أول وأهم أطروحة إسلامية فى القانون الدستورى، يعلى فيها من شأن تطبيق الشريعة على سلطة الخليفة، حتى ولو خضع لسلطة يفرضها عليه حاكم أجنبى مثل المغول أو السلاجقة، المهم هو تطبيق الشريعة كى تكون له شرعيته التى يستمدها من تطبيقه لها، وهو الأمر الذى دعمه أبو حامد الغزالى (1058 - 1111) من بعده. فقد عاش الغزالى فى بغداد تحت حكم السلاجقة. ولا يرى أنها مساومة بل إنها مناورة ذكية من العلماء لفرض سلطة القانون فوق أى سلطة أخرى، حتى ولو كانت خاضعة لمستعمر أجنبى. لأن الماوردى هو الذى أسس مسألة التوازن بين السلطات التى سادت فى الدولة الإسلامية لسبعمئة سنة. وكان هم العلماء هو الحفاظ على دورهم فى إعلاء كلمة الشريعة، كى يتمكنوا من تحجيم السلطة السياسية، وتأكيد العدل لدى العامة، وحماية ممتلكاتهم من جور أى سلطان عليها. وينتقل بعد ذلك إلى دور ابن خلدون (1332 - 1406) فى تأكيد أهمية القانون والعدالة بالتالى على كل وجوه العمران والحضارة المختلفة. فبدون العدل وحرية الملكية وحمايتها ينتفى الدافع للعمل، والدافع للملكية، ويتدهور العمران. بل ذهب ابن خلدون إلى أن تحريم النبى للظلم، ينطوى على وعى مبكر بأن الظلم يدفع للانهيار وتدمير العمران. وأن القانون العادل هو الأساس المتين لأى عمران. وقد ربط ابن خلدون بين الظلم المدمر للعمران، وبين السلطة الغاشمة والقوة المستبدة. وقد كان دور طبقة العلماء وأهميتها مرتبطًا بقدرتها على فرض تطبيق الشريعة والعدل على الحكام، وربط هذا التطبيق بشرعيته فى نظر المجتمع. كما ارتبط أيضا بتطويرها لأنظمة حماية مختلفة لأملاك الناس من الإصرار على حرمتها وحق أصحابها فيها من تنظيم تطبيق قواعد المواريث إلى بلورة نظام الوقف الذى يحمى ما لا يتوفر له ورثة من الأموال والممتلكات من استيلاء الحكام عليها. لكن هذا النظام المتوازن الدقيق من فرض القانون وتطبيقه وربط هذا كله بشرعية الحاكم ومشروعية الحكم أخذ فى الانحسار التدريجى مع نمو البيروقراطية فى مؤسسة السلطة الإسلامية. وتعاظم دور الكتبة ومنظمى أمور البلاط على حساب دور الفقهاء والعلماء الذين تضاءل دورهم وتقلصت أهميتهم، بينما كانت بيروقراطية الدولة، حتى قبل ازدهار الدولة العثمانية، تتنامى. ومع تنامى بيروقراطية الدولة ازداد التحكم فى دور الفقهاء، والاتجاه نحو مركزية مؤسسة الفتوى، بدلا من ديمقراطيتها السابقة حينما كانت مفتوحة. ومع تعاظم نفوذ الدولة العثمانية ازداد تنظيم عمليتى الإفتاء والتشريع، وأصبح كل من المفتى الأكبر وشيخ الإسلام جزءا من شرعية السلطان ومكتب حكمه. ويتوقف الكتاب عند دور أبو السعود أفندى، المفتى الأكبر، الذى أصدر مئات الفتاوى فى خدمة حكم سليمان القانونى. وكان احتواء الفقهاء والعلماء فى مؤسسة البلاط العثمانية هو الذى وفر لها الغطاء التشريعى الإسلامى، بإعلان الشريعة مصدرا لدستورية الدولة من ناحية، ومكن السلطان بالتالى من توسيع شرعيته وسلطته لتشمل كل المسلمين وبالتالى إعلان نفسه بسلطة تلك المؤسسة خليفة لهم، مع أنه يفتقر إلى النسب العربى، ناهيك عن القرشى، الذى كان من ضرورات الخلافة من قبل. وقد استطاع الفقهاء والعلماء تحقيق تلك المساومة الدقيقة بين سلطة السلطان التى وسعوها لتشمل كل المسلمين، وسيادة القانون أو شرع الله الذى يقر السلطان بأنه فوق كل سلطاته، ومنه يستمدها. وهذا فى حد ذاته فى رأى فيلدمان كان أكثر تقدما من قانون جوستنيان المسيحى الذى كان يضع الأمير فوق القانون. لكن هذا التوازن الدقيق الذى جعل دستورية الدولة الإسلامية أرقى من نظيرتها المسيحية لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما عصفت به الإصلاحات العثمانية الجديدة والتى هى موضوع القسم الثانى من الكتاب، والذى سنقدمه للقراء فى الأسبوع القادم.