بعد مرحلة فترة من تعرض جماعة الإخوان لعناصر التهديد التي يحملها المجلس العسكري ضد الجماعة وأعضائها البرلمانيين بالتحديد، والتلويح بحل مجلس الشعب علي خلفية ادعاء وجود عوار دستوري ردا علي إصرار البرلمانيين من الحرية والعدالة علي سحب الثقة من حكومة الجنزوي، والتشكك في نزاهة عقد انتخابات الرئاسة في ظل هذه الحكومة وإمكان التدخل فيها من المجلس العسكري، بعد هذه المرحلة المتسارعة، وخلال يوم واحد وبضع ساعات، خرج المجلس العسكري ببيان مفاجئ غرضه التنفيس عن حنق العسكر، ورفع إصبع التهديد للإخوان كما رفعه اللواء الفنجري ضد الثورة في مرحلة سابقة، والدفاع عن المجلس العسكري ضد الاتهامات الموجهة إليه والشكوك حول تصوراته وخططه، وكان الدفاع أقرب إلى «الاعتراف» وأدنى قليلا من كشف الأوراق ثم سحبها، وكأن المجلس يقول: "كانت هذه خطتي وكان هذا قصدي-ولكني لا زلت ساعيا إلي إنفاذ ذلك المخطط رغم انكشافه-مع إدراكي لعدم قدرتي علي فعل هذا، وبالتالي ها أنا ذا أرفع صوت التهديد لعله يقع علي أذان مرتبكة، وقلوب خائفة مرتعشة فتنهزم ذاتيا من صوت تهديدي وتتراجع من تلقاء نفسها علي وقع وعيدي. رغم أني لست أملك حقا دفع هذا التحدي إلي منتهاه أو إنفاذ ذلك المخطط تجاه مبتغاه". هذا الصوت الداخلي الخائف والقلق والمرتعش-ضمن إطار من اللغة الصارمة ظاهريا- كشف عن محاولة المجلس العسكري إخفاء ذعره من سقوط حكومة الجنزوري الوشيك، والذي سيعني إحياء الصوت المعارض للمجلس العسكري، بعد أن كان مجلس العسكر قد بدأ يتصرف وكأنه قد كسب الجولة وقام بترويض الثورة، وبالتالي أخذت أحكام البراءة تتوالى علي ضباط الشرطة المتهمين بالقتل، وصارت الحكومة -تحت رعاية المجلس العسكري- تتفنن في تعذيب الشعب بإلهائه في مشاكل حياته اليومية (لن يكون البنزين والسولار آخرها) وبالتجاهل الشديد لكل المطالب الفئوية المرفوعة (من عمال النقل وغيرهم)، بل واستخدام القوة والقسوة والعنف مرة أخرى في بورسعيد ضد موجة الغضب الجديدة بعد المحاولة الجديدة للتغطية علي المذبحة التي رعتها ونفذتها دولة المجلس العسكري، ثم حاكمت وعاقبت شعب بورسعيد عليها. لقد جاء هذا البيان كاشفا بشكل كبير عن نمط التفكير الاستراتيجي الذي يحمله العسكر في عقولهم، إنه فقط بمثابة سحابة دخان كثيفة لتغطية الانسحاب، إنها استراتيجية انسحابية تستخدم الصوت العالي فقط للتغطية علي فشلها في التقدم، إن القاعدة الأساسية هي أن «من يستطيع الفعل لا يلجأ إلي القول، ومن يستطيع إنفاذ تصوراته وخططه لا يبالغ في الإعلان عنها والانتصار لها، بل والتهديد بها». المجلس العسكري يتحدث ويهدد، في حين أنها ليست المرة الأولى التي يجرب المصريون عليه هذا التلويح بإصبع التهديد، وهو أبعد ما يكون عن أي قدرة علي فعل أي شيء. هذا الإلحاح الغريب في بيان المجلس العسكري علي فكرة أنه صاحب الثورة وحاميها دليل علي الإفلاس التام، مثله مثل القول بأن المجلس العسكري كان يترفع عن الرد علي ما يسميه «الافتراءات»، في حين أنه يقر من طرف خفي بكل الفشل الذي يتحمل مسئوليته المجلس العسكري وحكومته العاجزة، والتي لا يزال المجلس -لنفس الأسباب التي يتداولها الجميع- متمسكا بها. ومرة أخرى، يجدد المجلس العسكري المن علي المصريين بأنه سمح بنزاهة الانتخابات التشريعية، وكأن سلطته وصلاحياته كانت تسمح له أساسا بأن يعمل علي تزويرها، أو حتى عدم إجرائها علي الإطلاق!! ويتوهم المجلس العسكري أن البعض يريد الضغط عليه بغرض إثنائه عن الاضطلاع بتلك المسئولية الوطنية التي يتحملها الآن. وهو حين يعلن هذا فإنه إنما يكشف عن خوفه وقلقه من لحظة تسليم السلطة التي هي آتية لا محالة، والتي صارت الجماهير -الذي يدعي المجلس العسكري أنها تؤازره وتناصره في حين أنها تتظاهر ضده وتحتج عليه- تنتظرها بفارغ الصبر، علي أن يكون تسليم المجلس العسكري للسلطة في إطار «خروج عادل» وليس «خروجا آمنا» كما يتمنى. وبدلا من أن يؤكد المجلس العسكري علي عزمه إنفاذ الانتخابات الرئاسية بكل النزاهة والشفافية، وبدلا من أن يقول إنه علي مسافة متساوية من جميع المرشحين وأنه لا يفضل «مرشحا توافقيا» ترضى عنه السلطة العسكرية الانتقالية، نجد المجلس العسكري يقول أن التشكيك إزاء نزاهة الانتخابات القادمة محض افتراء لا أساس له من الصحة!! دون أن يحمل نص بيان المجلس تطمينات فعلية حول جديته بشأن نزاهة هذه الانتخابات وقبوله بأي مرشح كان ينتخبه الشعب ليتولى القيادة ويتسلم السلطة من المجلس العسكري كاملة غير منقوصة. فالأهم مما جاء في البيان هو ما سكت عنه؛ إذ لم يؤكد المجلس على عبارته التي ما فتئ يرددها في كل بياناته بأنه "ليس بديلاً عن الشرعية التي يختارها الشعب" ويجدد "التزامه بتسليم السلطة الرئاسية والتنفيذية لسلطة مدنية منتخبة" بعد شهر يونيو!... وفي هذا إشارة مهمة جدا ودلالة كافية حتما! ولا ينتهي بيان المجلس العسكري دون كشف أكثر عبارات البيان سذاجة وطرافة في ذات الوقت، عبارات لتهديد لمن لا يعون "دروس التاريخ" (؟) والذين لا يدركون إمكانية استعادة "ماضٍ لا نريد له أن يعود" (؟) والمقصود به هو انقلاب الجيش علي القوى الفاعلة في المجتمع والواقع السياسي واستفراده بالسلطة والعصف بمعارضيه (كما فعل في 1954). وكأن القائمين علي الحكم اليوم يرون أن الزمن لم يتغير والعالم كذلك لا يتغير، وكأنهم يرون أن «الانقلاب» والانفراد بالسلطة هو خيار متاح لهم، يتوقعون أن يتخذوا القرار بالسير في طريقه دون مراجعة أو محاسبة أو مساءلة من أحد، وبانتظار أن تهلل له القوى الدولية المتربصة بمصر التي سوف تشجع هذه الخطوة وتباركها!! إن مثل هذا التصور من جانب المجلس العسكري ومثل هذا التهديد من جانبه، إن هو إلا إعلان هن فشل كامل، وانكشاف شامل، وسقوط خطير! إذ أن نبرة التهديد لا تخفي سوى الضعف، ولغة الوعيد لا تكشف إلا عن ارتباك وتخبط. إنه بيان سوف يندم المجلس العسكري علي إطلاقه وسوف يتمنى لو أنه لم يعلنه أبدا. من الطبيعي الآن أن يواجه المخاطبون بهذا التهديد مثل هذه العبارات والمقولات من المجلس العسكري بالابتسام والاستخفاف، وسوف يعلنون تحديهم -هم وجميع المصريين- لمن صاغ هذا البيان وأطلق هذه التهديدات الفاشلة. إن علي المجلس العسكري إذا أراد أن يحافظ علي البقية الباقية من مصداقيته أن يلتزم بنزاهة الانتخابات الرئاسية فعلا، وأن يتقبل الرئيس القادم الذي سيختاره الشعب حتى لو كان علي غير هوى القائمين علي المرحلة الانتقالية، وعليه أن يسمح برحيل ومحاسبة ومساءلة حكومة الجنزوري إذا كان بحق حريصا علي مقدرات هذا الشعب وراغبا في حل المشكلات التي يواجهها، وعليه كذلك أن يبتعد عن أي محاولة للتأثير علي مجريات صياغة الدستور بواسطة الجمعية التأسيسية التي هي منوطة بهذا، وإلا فإن تهديدات بيان الخامس والعشرين من مارس سوف ترتد وبالا وخبالا علي من أطلقها.