يروق للأميركيين فكرة أن الولاياتالمتحدة تملك تفردا واستثنائية بين العالمين، لكنها للأسف فكرة زائفة. "ستيفين وولت" -إن تركيز الأميركيين على تفردهم المفترضة يعميهم عن إدراك أنهم في الحقيقة كالآخرين -وجه الخطأ في الصورة المتخيلة لدور الولايات في العالم هو أنها في الغالب مجرد أسطورة -عندما يفاخر الشعب الأميركي "بتفرده" وبأنه "الأمة الضرورة"، فما هو إلا آخر المنضمين إلى جوقة ما تزال تردد معزوفة قديمة مألوفة. -لو كانت ادعاءات الولاياتالمتحدة بأنها أفضل من غيرها من القوى العظمى صحيحة، لما استوت في توحشها مع أسوأ الدول في تاريخ البشرية -الولاياتالمتحدة كانت على الدوام مستعدة للتقرب من الأنظمة المستبدة رغم سجلها المخزي في مجال حقوق الإنسان -نجاح أميركا السابق راجع إلى الحظ الجيد بقدر ما هو راجع إلى "الفضائل الفريدة" لشعبها -المكانة الراهنة للولايات المتحدة هي نتاج حسن الطالع بقدر ما هو نتاج عبقرية استثنائية أو "مشيئة ربانية" -ما نحتاجه، باختصار، هو تقييم أكثر واقعية وأشد نقدا للشخصية والإسهامات الأميركية. وفي هذا السياق، أسوق الأساطير الخمس الكبرى المؤسسة للتفرد الأميركي. طالما رددت بعض النخبة الأميركية طوال قرنين مقولة "الاستثنائيةّ/التفرد الأميركي"، فوصفوا الولاياتالمتحدة بأوصاف شتى: "إمبراطورية الحريات"، "المنارة المضيئة"، "ملاذ البشرية الآمن "، "رائدة العالم الحر"، "الأمة الضرورة" إلخ. هذه "الطقوس الشوفينية" ربما تفسر نزوع جميع مرشحي الرئاسة إلى استلهام كل ما يعكس إيمانهم بهذه المقولات بمن فيهم الرئيس باراك أوباما الذي يؤمن بالتفرد الأميركي، لكنه في نهاية المطاف "تفرد" لا تختلف عن "التفرد البريطاني" و معظم مقولات "الاستئنائية الأميركية" تنطلق من افتراض بأن منظومة قيم الولاياتالمتحدة ونظامها السياسي وتاريخها، فريدة من نوعها وتستحق أن تحوز إعجاب العالم. وكلها تستبطن أيضا "قناعة" ضمنية بأن الولاياتالمتحدة جديرة بأن تلعب دورا متميزا وإيجابيا على المسرح الدولي. وجه الخطأ في هذه الصورة المتخيلة لدور الولاياتالمتحدة في العالم هو أنها في الغالب مجرد أسطورة. صحيح أن أميركا تمتلك صفات فريدة، كشيوع التدين وتقديس الحرية الفردية، إلا أن هذا الدور تمليه في المقام الأول القدرة النسبية لأميركا والطبيعة التنافسية المتأصلة في السياسة الدولية. إن تركيز الأميركيين على تفردهم المفترضة يعميهم عن إدراك أنهم في الحقيقة كالآخرين. هذه العقيدة الراسخة "بالتفرد الأميركي" تجعل من الصعب على الأميركيين أن يدركوا سبب ضعف حماسة الآخرين لهيمنة الولاياتالمتحدة وقلقهم من سياساتها وكرههم لما يعتبرونه نفاقا أميركيا سواء كان الأمر متعلقا بحيازة الأسلحة النووية أو احترام القانون الدولي أو نزوعها لإدانة سلوك الآخرين دون أن تدرك إخفاقاتها. ومن المفارقات أن السياسة الخارجية الأميركية ربما تكون أكثر فعالية لو كان الأميركيون أقل تمسكا بهذا التفرد وأكثر زهدا في ادعائه. ما نحتاجه، باختصار، هو تقييم أكثر واقعية وأشد نقدا للشخصية والإسهامات الأميركية. وفي هذا السياق، أسوق الأساطير الخمس الكبرى المؤسسة للتفرد الأميركي. الأسطورة الأولى كلما أشار الزعماء الأميركيون إلى المسؤوليات "الاستثنائية" للولايات المتحدة، يقولون إنها تختلف عن القوى الأخرى وإن هذه الاختلافات تتطلب منهم أن يتحملوا أعباء خاصة. لا، ليس ثمة ما هو استثنائي في هذه الادعاءات، فهم إنما يسيرون في طريق مطروق، فمعظم القوى العظمى كانت تعتبر نفسها متفوقة على منافسيها وتعتقد بأنها كانت تفيض بالخير على البشرية بفرضها خياراتها على الآخرين. فالبريطانيون كانوا يعتقدون بأنهم يتحملون "عبء الرجل الأبيض" والمستعمرون الفرنسيون رفعوا شعار "المهمة الحضارية" لتبرير سياساتهم الإمبراطورية، والشعار نفسه رفعه البرتغاليون. وحتى كثير من قادة الاتحاد السوفياتي السابق اعتقدوا في فترة ما أن امبراطوريتهم تقود العالم حقا نحو "يوطوبيا اشتراكية" برغم ما ارتكبه النظام الشيوعي بحق مواطنيه وبحق الآخرين. لا شك أن الولاياتالمتحدة أولى من ستالين وخلفائه بادعاء الفضيلة، لكن (الرئيس باراك) أوباما كان محقا حينما ذكرنا بأن جميع الدول لديها ما تفخر به. لذلك فعندما يفاخر الشعب الأميركي "بتفرده" وبأنه "الأمة الضرورة"، فما هو إلا آخر المنضمين إلى جوقة ما تزال تردد معزوفة قديمة مألوفة. والاعتقاد "بالاستثنائية" هو القاعدة وليس الاستثناء. الأسطورة الثانية ادعاءات "الاستثنائية الأميركية" تنبع من الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة أمة فاضلة بصورة استثنائية، أمة تحب السلام وترعى الحرية وتحترم حقوق الإنسان وتقدس حكم القانون. ويحلو للأميركيين الاعتقاد بأن بلادهم تتصرف على نحو أفضل بكثير من الدول الأخرى، وبالضرورة أفضل من غيرها من القوى العظمى. لو كان ذلك صحيحا، لما استوت الولاياتالمتحدة في توحشها مع أسوأ الدول في تاريخ البشرية. فالمتأمل في فصول التاريخ يتبين له كذب جل هذه الادعاءات القائلة بالتفوق الأخلاقي للولايات المتحدة. ولمن لا يعلم أو يتذكر، فإن الولاياتالمتحدة واحدة من أكثر القوى التوسعية في التاريخ الحديث، بدأت ب13 مستعمرة صغيرة على الساحل الشرقي للأطلسي، لكنها تمددت في نهاية المطاف في طول القارة الأميركية، فاستولت على ولايات تكساس وأريزونا ونيومكسيكو وكاليفورنيا من المكسيك في 1846. وخلال مسيرتها هذه، أبادت معظم السكان الأصليين، وحصرت الناجين منهم في محميات فقيرة. وبحلول منتصف القرن ال19، طردت بريطانيا من شمال غرب المحيط الهادئ، وأحكمت قبضتها على النصف الغربي من الكرة الأرضية. ومنذ ذلك الحين، خاضت الولاياتالمتحدة حروبا عديدة، وكانت هي البادئة في كثير منها، وسلوكها في هذه الحروب أبعد ما يكون عن أن يكون نموذجا للسلوك الأخلاقي المنضبط. فخلال غزو الفلبين بين 1899 و1902، قتل ما بين 200 ألف و400 ألف فلبيني معظمهم مدنيون. كما لم تتردد الولاياتالمتحدة وحلفاؤها في تهجير 305 آلاف مدني ألماني، و330 ألف مدني ياباني، جراء القصف الجوي في الحرب العالمية الثانية، وقد تم معظم ذلك في إطار حملات منظمة استهدفت المدن المعادية. ولذا فلا غرابة أن قال الجنرال كورتيس ليماي -الذي أشرف على حملة القصف ضد اليابان- لمساعده "لو لم تكسب الولاياتالمتحدة الحرب، لحوكمنا كمجرمي حرب". وخلال حرب فيتنام ألقت الولاياتالمتحدة أكثر من ستة ملايين طن من القنابل، بما في ذلك أطنان من قنابل النابالم والمواد الكيمياوية المدمرة للأشجار والغابات "كالعامل البرتقالي"، وهي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن وفاة عدد كبير من مليون مدني قضوا في تلك الحرب. وفي أحدث هذه الحروب، قتل في حرب ثوار الكونترا المدعومين من الولاياتالمتحدة، نحو 30 ألف في نيكاراغوا، وهو عدد يعادل مليوني أميركي قتيل، بالنسبة إلى عدد سكان الولاياتالمتحدة. وقد أدت الحملات العسكرية الأميركية بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى وفاة 250 ألف مسلم على مدى العقود الثلاثة الماضية (وهذه أقل التقديرات وهي لا تشمل الوفيات الناجمة عن العقوبات المفروضة على العراق في عقد التسعينيات)، بما في ذلك مقتل أكثر من 100 ألف شخص قضوا عقب غزو العراق واحتلاله عام 2003. واليوم لا تزال الطائرات الأميركية بدون طيار والقوات الخاصة تتعقب الإرهابيين المشتبه فيهم فيما لا يقل عن خمس دول، مما أسفر عن مقتل عدد غير محدد من المدنيين الأبرياء جراء هذه العمليات. وقد يكون بعض هذه العمليات ضروريا لجعل حياة الأميركيين أكثر ازدهارا وأمنا. وبينما كان الأميركيون سيعتبرون دون شك مثل هذه الأفعال إجرامية وغير مبررة لو ارتكبتها دول أخرى بحقهم، فإننا نكاد لا نجد مسؤولا أميركيا واحدا يدين هذه السياسات، بل إنهم -ويا للمفارقة- ما زالوا يتساءلون "لماذا يكرهوننا؟" تجيد الولاياتالمتحدة "لعبة حقوق الإنسان والقانون الدولي"، لكنها ترفض حتى اليوم التوقيع على معظم معاهدات حقوق الإنسان، وهي ليست موقعة على محكمة الجنايات الدولية، وكانت على الدوام مستعدة للتقرب من الأنظمة المستبدة رغم سجلها المخزي في مجال حقوق الإنسان!، هل تذكرون صديقنا حسني مبارك؟ إذا لم يكن ذاك كافيا، فإن فضحية أبو غريب وممارسة إدارة الرئيس جورج بوش لصنوف التعذيب كالإيهام بالغرق، والسجون الأميركية في الخارج، والاحتجاز الوقائي، أمثلة كافية لنسف الاعتقاد بأن أميركا تتصرف وفق المعايير الأخلاقية. إن قرار أوباما استبقاء العديد من هذه السياسات يثبت أنها ليست مجرد تجاوزات أو انحرافات مؤقتة. سجل الولاياتالمتحدة واضح وجلي، لقد قام زعماء الولاياتالمتحدة بما ظنوا أنه ينبغي القيام به عندما واجهوا الأخطار الخارجية، ولم يولوا اهتماما يذكر للمبادئ الأخلاقية خلال مسيرتهم. يحلو للأميركيين الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة أمة فاضلة بصورة متفردة، لكنه للأسف اعتقاد زائف. الأسطورة الثالثة: "نجاح أميركا نابع من عبقرية استثنائية" تملك الولاياتالمتحدة سجلا طويلا من النجاحات العظيمة، ويميل الأميركيون إلى تصوير صعود نجمهم كقوة عظمى على المسرح الدولي، باعتباره ثمرة مباشرة للعبقرية السياسية للآباء المؤسسين، والفضائل الاستثنائية للدستور الأميركي، وتقديس الحرية الفردية، وإبداع وجدية الشعب الأميركي. بمنطق هذه الرواية، تتبوأ الولاياتالمتحدة اليوم مكانة دولية استثنائية لأنها ببساطة أمة "استثنائية". هناك قدر غير يسير من الحقيقة في هذه النسخة من التاريخ الأميركي. ليست مصادفة أن جاء المهاجرون إلى أميركا بأعداد كبيرة بحثا عن فرص اقتصادية، وقد سهلت أسطورة أن أميركا "بوتقة انصهار" استيعاب كل موجات الهجرة إلى العالم الجديد. لا شك أن منجزات أميركا العلمية والتكنولوجية تستحق الثناء والفضل في تحقيق قدر منها يعود إلى انفتاح النظام السياسي الأميركي وحيويته. لكن نجاح أميركا السابق راجع إلى الحظ الجيد بقدر ما هو راجع إلى "الفضائل الفريدة" لشعبها. كانت الأمة الأميركية الجديدة محظوظة بفضل ما حباها الله من خيرات وموارد طبيعية، وإمكانية التنقل فيها طولا وعرضا عبر أنهار قابلة للملاحة. كانت الأمة الأميركية محظوظة لأنها تأسست في مناطق نائية عن بقية القوى العظمى، بل إنها كانت أكثر حظا لأن السكان الأصليين لأميركا كانوا أقل تقدما وعرضة بصورة كبيرة للأمراض الأوروبية. كانت الأمة الأميركية محظوظة لأن الدول الأوروبية الكبرى كانت في حالة حرب طيلة المرحلة الأولى من تاريخ تشكل الجمهورية الجديدة، وهو ما سهل عليها التوسع في طول القارة وعرضها، لم يتحقق تفوق الولاياتالمتحدة إلا بعد أن خاضت القوى العظمى الأخرى حربين عالميتين طاحنتين. هذا التفسير والفهم لصعود نجم أميركا لا ينفي أن الولاياتالمتحدة فعلت الكثير من الأشياء الصائبة والصحيحة، لكنه يثبت أن المكانة الراهنة للولايات المتحدة هي نتاج حسن الطالع بقدر ما هو نتاج عبقرية استثنائية أو "مشيئة ربانية". "ستيفن وولت" أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الأميركية