يبدوا أن القيادة المصرية اعتادت وأد الكفاءات ونكران الجميل والكيل بمكاييل عديدة، فعندما يكرم الضباط ويأخذون أعطياتٍ جزيلةٍ، ويحرمُ الجنديُّ الصغيرُ (أبو 4 جنيه في الشهر) والذي كان وقودًا لحرب أكتوبر المجيدة؛ فلا بد إذن من وقفة أو صرخة؛ لعلها تصل سكان الأبراج العاجية فترق قلوبهم لسكان القرى والنجوع البعيدة . لماذا يُستبعد الأبطالُ الحقيقيون للحرب من المكافآت المالية، ولو حتى من باب "رد الجميل" مع أنه حق أكيد لهم وليس منحة من أحد. * لماذا لا تنظرون إلى الصهاينة وكيف يعاملون أسراهم في أكتوبر * الصهاينة ختمونا على أكتافنا * قضيت أسبوعا بعد الختم وحرارتي مرتفعة * وعدونا بنجمة سيناء وفي الآخر أعطونا مجرد ورقة * العسكري أبو 4 جنيه في الشهر هو البطل الحقيقي للحرب * مكافأة له على بطولته... خصموا سنوات الحرب الأربعة من المعاش * كانوا يرمون لنا السجائر على الأرض، وعندما نمد أيدينا لنأخذها يتم تصويرنا في هذا الوضع المهين نود التعرف عليك وكيف ومتى التحقت بالجيش المصري؟ اسمي حسين فريد محمد حلوة، التحقت بالجيش المصري في تاريخ 5/7/1973 بمركز تدريب اللاهون، وعندما ضاق المركز بالمجندين الجدد تحولنا إلى اللواء السابع مشاة السويس، وأثناء شهري أغسطس وسبتمبر دخلنا في مشروع عبور القناة والقيام بتدريبات في الضفة الشرقية من القنال، وكان تقييم القيادة في ذلك الوقت أن المشروع نجح دون خسائر. صف لنا بداية المعركة والجو السائد وقتها؟ في يوم السادس من أكتوبر قيل إننا بصدد مشروع آخر لعبور القناة، وبالطبع لم يذكر أحد أننا مقبلون على حرب، وفجأة شاهدنا أسراب الطيران المصري في حركة غير معتادة وتوقع الجميع أن الطيران سيضرب مواقع العدو في سيناء. وكانت أول كلمة انطقت هي صيحة "الله أكبر" والتي استدامت معنا أثناء ملحمة العبور وحتى نهاية الحرب. وبما أنكم تدربتم على العبور، فهل كان سهلا بالنسبة لكم هذه المرة؟ يوم 6 أكتوبر كان معنا سرية اسمها الفهد مضادة للطيران، في ذلك الوقت امتلأت القناة بالمعابر، وسقط أحدها وكان المشرف عليه برتبة عميد، فقيل حينها إنه أخطأ في عملية ترتيب القطع العائمة فوق القنال عند إنشاءه، وقيل أيضًا إنه تعمد هذا الخطأ لكونه جاسوس لإسرائيل، المهم جاء ضابط صغير من سلاح المهندسين برتبة ملازم أول "بدبورتين" وقام بإعادة ترتيب القطع ونجح في مهمته وعبرنا برحمة الله وفضله، لكن طبعا متأخرين عن زملائنا. وفي ذلك الوقت كانت الدبابات الإسرائيلية قد أعيت جنودنا على الضفة الشرقية خصوصًا أننا تأخرنا في العبور بعد تأخر نصب الكوبري. كيف انتهت محنة الثغرة بحصاركم؟ عندما استطاع الأمريكان والصهاينة اكتشاف الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث ودخلت دبابات شارون متجهة إلى الضفة الغربية في ذلك اليوم نسينا أن نأكل لكن قولة "الله أكبر" كانت تنسينا التفكير في أي شيئ آخر، كنا قبل منطقة عيون موسى بنحو ستة كيلو مترات عندما جاء الطيران الأمريكي يضرب من الخلف. وجائت أوامر بوقف إطلاق النار، لكننا كنا نزحف ليلاً للتوغل في صحراء سيناء لاستعادة الأرض. كان النقيب صلاح الدين الكابلي يرفع من الروح المعنوية للمجندين المحاصرين، ومات زملاؤنا من الجوع والعطش بعد أن قضينا مدة 20 يومًا تقريبا في الحصار وأصيبت شخصيا بالشظايا الموجود أثرها حتى الآن في قدمي من ضرب القنابل الصهيونية. ومنذ أن فتح الصهاينة تلك الثغرة أصبحنا في حصار لأن السويس حوصرت فقطع المدد من القاهرة وعندما أتت طائرة بتعيينات وهبطت في السويس ووصلنا جزء منها كان طعام الجندي الواحد يشترك فيه أربعة جنود. وكيف تم أسرك مع زملائك؟ عندما حوصرنا قرب عيون موسى جائتنا إشارات بالمنع من دخول منطقة العيون التي تنبع بالماء في الصحراء القاحلة، وأكدت الإشارة أن جنود مصريين أسروا من هناك بعد محاولات جلب الماء لزملائهم. في ذلك الوقت كنا نمضغ اللبان ليجري الريق، ولم يعد يجدي اللبان شيئا بعدما جف الحلق تماما، وكنا بين خيارين أحلاهما مر، الأول أن نموت عطشًا وهذا موت محقق، والثاني أن نموت في الأسر عند الصهاينة ، وهذا موت محتمل، فقررنا أن أذهب مع سبعة من زملائي لإحضار الماء من عيون موسى في جراكن يسع أحدها أربعين لترًا بالفعل مشينا ستة كيلو مترات وقمنا بملأ الجراكن بالماء، ثم حمل كل منا حمولته على كتفه، وكانت المفاجأة ... كمين صهيوني مدجج بالسلاح برز لنا من بين الرمال ومن خلف الصخور، وأمرونا بالاستسلام وربطوا أعيننا وأركبونا السيارة الجيب مع الضرب والإهانة. كيف عاملكم الصهاينة كأسرى حرب؟ عندما وصلنا إلى معسكرهم استقبلونا بحفل تعذيب وضربونا بالسياط وعذبونا ليعترف كل منا بالسلاح الذي ينتمي إليه وكي نقول أية معلومات عن الكتيبة والسرية وعدد أفرادها وكيف نتلقى الأوامر من القيادة. ولكوني مجند حديث بالجيش المصري فهذا كان سبب في تخفيف التعذيب إلى حد بعيد. وكان معنا ضابط كبير في السن، فهمس إلينا على غفلة من العدو: محدش يقول إن أنا ضابط، ونادوني ب: عم عبدالله راح عم عبد الله جاء. وكانو يعطوننا رغيف خبز طويل وتفاحة ولتر ماء يوميا لكل أسير في طابور الأسرى الطويل الذي يزيد عن 120 أسير مصري في ذلك المعسكر القريب من عيون موسى. وبطبيعة الحال كنا لا نذوق النوم من الرعب طوال الليل والنهار ولا يسمحون لأحد بخلع "البياده" حتى تعفنت أقدامنا ، ورغم كل هذا كانوا خائفين منا وكأننا أسود ستفترسهم إن غفلوا عنا والقناصة يتخذون مواقعهم حولنا بالبنادق الآلية المزودة بالمناظير، كنا نعامل أسوأ معاملة، وكان المصريون يعاملون أسرى اليهود بمنتهى الرقى هل كانت هناك طرق أخرى للتعذيب؟ بعد وجبة الطعام اليومية كانوا يأخذون الواحد منا ليجلدوه بوجبة من السياط، طبعا من تكرار التعذيب اعترف الكثيرون بمعلومات أساسية مثل السلاح الذي يخدم فيه والتخصص ونوعية السلاح الذي يجيد، استمر هذا الحال طيلة الأيام العشرة. وطرق التعذيب أن الأسير يلقى إلى خشبة مثبتة في حفرة ويؤمر بالجلوس والإمساك بالخشبة، في حين يقوم الجلاد بضربه بالسياط على الظهر، بينما يأتيه المحقق من أمامه ويحاول أخذ الاعترافات. ومن أنواع التعذيب أيضا التعذيب المعنوي ومحاولة كسر عزة المصري، فأحيانا كانوا يرمون لنا السجائر على الأرض، وعندما نمد أيدينا لنأخذها يتم تصويرنا في هذا الوضع ونحن مطأطؤو الرئوس وكأننا نتسول منهم ونستجديهم. وكان الضباط المسؤولون يتعذبون أكثر من المجندين فكنا ندفع عنهم ونقول للمترجم إن الضباط لم يكونو يذهبون لإحضار الماء في محاولة لإقناع المحقق بأنهم جنود عاديين. هل كان المحقق يتكلم العربية؟ لم يكن يتكلم العربية، لكن كان عندهم مترجم لهجته فلسطينية فقلت له: أنا معرفش حاجة عن الجيش أنا مجند حديث واللوحة الألومينيوم في عنقي مكتوب فيها تاريخ التجنيد، فختموني بالختم ووضعوني جانبا. أي ختم تقصد؟ الصهاينة في هذا المعسكر كانو يختمون الأسرى بختم دائري، وذلك المترجم العربي ختمنا به، وهو مؤلم جدا وأثره حتى الآن في كتفي، وعندما طعنني به صرخت، وانحدر الدم من الكتف وقضيت أسبوعا بعد الختم وحرارتي مرتفعة. هل سألكم المحققون عن الدافع الذي تحاربون من أجله؟ نعم بالفعل سألونا فقلنا لهم إننا نقاتل لاسترجاع أرضنا المحتلة، فهاجمونا قائلين بل هي أرض (إسرائيل) إلى الأبد وأنتم تغتصبونها، والمترجم الفلسطيني يقول: ستدفنون هنا، فكنا نرد: ندفن في أرضنا الحمد لله. كيف تمت عملية تبادل الأسرى؟ عندما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات عن عزمة على إتمام عملية تبادل الأسرى تركونا نتكلم في الهاتف مع القيادة وكنت من ضمن المتكلمين وقلت إننا تحت سيطرة القوات الإسرائيلية ويعاملوننا معاملة حسنة وآخر حلاوة وكنا وقتها نحو 120 أسير مصري بينما أسرى اليهود لدى المصريين كانو بالمئات، لذلك طلبت القيادة المصرية تحرير أسرى المصريين عام 1967 وفي تلك الليلة رأيت رؤيا وأنا في نائم: أن جملا يبرك فوقي لينقذني مما أنا فيه وكان تأويلها على أننا سنعود للوطن، وبعدها بقليل جاء الجندي المترجم فقال لنا: مبروك .. السادات طلب تبادل الأسرى. وبدأت المعاملة تتحسن ومكثنا مستيقظين للصباح وذهبنا لآبار موسى ومشينا 2 كيلو متر أما المرضى فأخذوهم بالسيارة الجيب وتركونا لنذهب للقيادة المصرية سيرا على الأقدام ومع تدهور الصحة والتعذيب مات اثنان من زملائنا ودفناهم بالرمل ووضعنا حجرين عند رأسيهما ليعلم المار أنهما قبران. وماذا حدث بعد وصولكم للقيادة المصرية؟ بعد أن وصنا السويس استقبلونا الترحاب في معسكر قرب قرية الفار على طريف السويسالاسماعيلية ورأو البهدلة والأختام فهنؤونا على سلامة الوصول وأعدوا لنا الأكل الطيب، وجعلونا نستحم في الماء المالح حتى يختفي الجرب، وجلبوا لنا الملابس الجديدة، تمهيدا لأجازة لمدة 10 أيام وشحنونا في عربات الجيش إلى القاهرة، وعلى كوبري الليمون وجدنا آلاف الآباء والأمهات يستقبلوننا، ويسألون عن أبنائهم وكان الناس يعرفون أن جزءًا من الجيش محاصر. وكل الناس في الشوارع كانت تهنينا بالعودة وتقول لنا: رفعتوا رأسنا يا رجالة، ربنا يخليكم لمصر، ولم يكن لدينا نقود، فتضامن معنا الركاب في القطار وحاسبوا لنا حتى حصلنا على الكارت الأحمر الذي يعفينا من أجرة المواصلات العامة، وعندما وصلنا القرية أخذنا الأهالي في زفة طافوا بنا أرجاء القرية. كيف كافأتكم الدولة بعد العودة؟ أعطونا قلادة مكتوب عليها: قوات بدر الصادمة اللواء السابع سرية كذا، ووعدونا بنجمة سيناء ثم آلت في النهاية إلى شهادة ورقية للمجندين ولا شئ آخر بالمرة أما الضباط فأخذوا النجمة والمرتب الشهري، بل إن هيئة التأمينات والمعاشات لم تضم فترة التجنيد والحرب إلى المعاش ولم يعترفوا بالشهادة الورقية التي أعطتها لي القوات المسلحة، ولقد حاولت ضم السنوات الأربع في 2006 فقوبل الطلب بالرفض، يعني لا تقدير مالي من القوات المسلحة، ولا من المعاشات. وكل ما أتمناه أن المدة التي خدمتها في الجيش يضموها للمعاش حيث إنني كنت أعمل مندوبًا لبنك الدلتا الدولي وتم بيع البنك ليصبح البنك الأهلي المتحد، إنني أتقاضى معاش 750 وعندي أولاد وبنات في سن الزواج فهل يكفينا مبلغ كهذا في ظل ارتفاع الأسعار؟ بالطبع لا، ثم إن مبلغ ال 750 جنيه هو الذي كان يتم خصمه من المرتب أثناء سنوات العمل وليس منة من الدولة!! لقد خدمت أربع سنوات في الجيش وقالوا لنا إنها خدمة وطنية، طيب لماذا يستمتع الضباط العاملين والاحتياط بنجمة سيناء ومرتبها العالي، أليست عليهم خدمة وطنية أيضا؟ لماذا الكيل بمكيالين؟ وحتى جمعية المحاربين القدماء مخصصة للضباط فقط في حين إن العسكري ليس له فيها مكان. أنا لا أريد شيئ إضافي من الدولة، أريد حقي فقط، وهو ضم مدة الخدمة في الجيش لمعاشي ليرتفع قليلا، فقد أصيبت بالزهايمر والسرحان من شدة ما رأيناه في الحرب والأسر والتعذيب وتنتابني العصبية وعدم التركيز، ألا يستحق ذلك أي تقدير من الدولة، وبأي منطق يتم تكريم الضباط، بينما المجندين يسفون التراب، هل كنا في الحرب نصفق للمحاربين؟؟ أم كنا مع إخواننا وقياداتنا الضباط في ذات الخنادق؟؟ لماذا لا تنظرون إلى الصهاينة وكيف يعاملون أسراهم في أكتوبر. حاوره: ياسر الشال أعده للنشره: نجاح شوشة