لماذا لا يصلح نموذج الحكم العسكري التركي لمصر؟ خلال الاسابيع والشهور التى تلت منذ اجبر ظباط العسكرية المصرية الرئيس حسني مبارك على التخلي عن السلطة وتولوا السلطة التنفيذية، ابدى حكام البلاد العسكريون اهتماما في تطبيق ما يطلق عليه الكثيرون "النموذج التركي". المتحدث الرسمي باسم المجلس الاعلى للقوات المسلحة (SCAF)، جنبنا الى جنب مع بعض السياسين المدنيين، طرحوا فكرة تكرار حقبة مضت لجوانب من السياسية التركية في مصر اليوم. بالرغم من بعض اوجه التشابه بين القوات المسلحة المصرية والتركية، الا انها سوف تكون نصيحة سيئة للظباط المصريين ان يحاولوا مضاهاة نظرائهم في تركيا. ليس فقط لأنهم سوف يحكمون بالفشل، بل، في تلك العملية ايضا ما من شأنه ان يجعل النضال من اجل بناء مصر جديدة اكثر تعقيدا وغير مؤكد. إن قادة العسكرية المصرية غير مهتمين كثيرا بمظاهر النموذج التركي الأخير، الذي فيه يشرف حزب ذوتراث اسلامي على اصلاحات سياسية واقتصادية كجزء من دولة لا زالت علمانية رسميا، بل ينظرون الى تكرار قديم من ذلك النموذج. هذه الحالة من النموذج التركي كانت هي العلامة المميزة للسياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية عام 1923 وحتى السنوات الاولى من العقد الماضي. تقدم هذه الحالة نموذجا للعلاقات المدنية - العسكرية التى تلعب العسكرية فيها دورا معتدلا تقوم فيه بمنع – في بعض الاوقات وعن طريق انقلابات بقيادة عسكرية – التجاوزات من الساسة المدنيين والايديولوجيات الخطرة (في حالة تركيا الهوية الاسلامية والقومية الكردية، وفي حالة واحدة الشيوعية) من تهديد النظام السياسي. كان للنظام السياسي التركي شبكة من المؤسسات عملت عمدا دور قناة لنفوذ العسكر. على سبيل المثال، فان رموز الخدمة في القوات المسلحة تناشد الضباط للتدخل في السياسة اذا ما ادركوا خطرا مما يهدد النظام الجمهوري. وتقلد ظباط العسكرية مناصب في مجالس ادارات تراقب التعليم العالي والإعلام العام. في الوقت نفسه فإن العديد من الاحكام الدستورية كانت تجعل من الصعب على المجموعات غير المرغوب فيها، بخاصة الاسلاميين والاكراد المشاركة في العملية السياسية. لا يزال حاليا غير واضح تماما بم يؤمن المجلس الأعلى للقوات المسلحة. القناة الأقوى من قنوات التأثير العسكري تمثلت في هيئة "ميللي جوفينليك كورلو" اومجلس الأمن القومي، المعروفة بالحروف الأولى من حروف اللغة التركية MGK. ويوجه الدستور التركي لعام 1982 القادة المدنيين الأتراك الى "اعطاء اولوية" الى توصيات ذلك المجلس من اجل الحفاظ على "وجود واستقلال الدولة، وتكامل ووحدة البلاد، وسلام وامن البلاد"، كان من النادر ان يتحدى احدا توجيهات مجلس الامن القومي. وكان لضباط المجلس مفاهيم تخطت كثيرا افكار سياسيات الدفاع، شاملة كل شيء بداية من التعليم، والاعلام، نهاية بملابس الساسة وزوجاتهم" ! بطريقة ما، ليس على المجلس العسكري ان يفعل الكثير للوصول لنموذج يقارب النموذج التركي على النيل، ان كلا من العسكريتين يتشاركون في بعض النقاط الهامة، على سبيل المثال، وعلى غرار فريق الجنرالات الأتراك، والذين عملوا بلا كلل للتأكيد على النظام السياسي الذي انشأءه مصطفى كمال أتاتورك وقادته بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فان فيالق الضباط المصريين حافظوا طويلا على العهد مع نظام كان اجداده من الضباط الأحرار الذين أنشئوه في بداية الخمسينات. في كلا من الحالتين التركية والمصرية، فان هذا الاحساس بالمسئولية جاء نابعا من الاحساس بان العسكرية، المجهزة بأفضل ادوات التنظيم والتكنولوجيا، معزولة عن بقية المجتمع وهي الحامي الأول للمصالح القومية. هذه النظرة تميل الى تولد الشك – واحيانا العداء – تجاه الساسة المدنيين. بالإضافة الى ذلك، فان كلا من العسكريتين طور مصالح ذات فوائد اقتصادية قوية ومرتبطة بشكل مباشر مع النظم السياسية في بلادهم. ففي تركيا اصبحت القوات المسلحة شريكا في مشهد اقتصادي يرعي شركات قابضة كبيرة تحكم فيها القليل من العائلات الذين ترتبط مصالحم الاقتصادية بالوضع الراهن. وفي مصر فإن العسكرية نفسها منغمسة في شبكة واسعة من النشاطات الاقتصادية تشمل الزراعة، العقارات، السياحة، الأمن وخدمات الطيران، البضائع الاستهلاكية، الصناعات الخفيفة، وبالطبع صناعة الأسلحة. ان كلا من فئة الجنرالات الأتراك وضباط مصر الحاليين، لديهم نفور من السياسية والاحداث الجارية يوما بعد يوم لبلادهم. وهم يفضلون ان يتركوا المسئولية ومخاطر الحكم للمدنيين، أو، في حالة مصر، ان يتم ندب السلطة من القوات المسلحة، هذا النوع من الترتيب هوالذي يعني بدقة ان تدير دون ان تحكم. الان ومع وجود المجلس الاعلى للقوات المسلحة بشكل فعلي في السلطة، يوجد ثمة دليل ما ان بعض المصريين، من كلا من المدنيين والضباط، يقومون بدارسة النموذج التركي وتداعياته السياسية. انه ومنذ تقلدها السلطة في فبراير الماضي، قامت العسكرية المصرية باتخاذ اجراءات لحماية قادتها من المقاضاة امام محاكم مدنية، من ناحية أخرى فقد تجرد برلمان الحماية التركي من الميلشيات العسكرية داخله. ولقد مرروا ايضا بعض الاقتراحات من خلال مندوبين غير عسكرين لحماية ميزانية الدفاع من العرض امام البرلمان، مما يحافظ على السلطة المطلقة على السياسة الدفاعية، بل وحتى تكوين مجلس للدفاع القومي على غرار صلاحيات مجلس الدفاع القومي التركي قبل ان يتم معالجة هذا الأخير في الاصلاحات الدستورية لعام 2003. ومشاركة الظباط المصريين في اللجنة المصرية للانتخابات يشبه كثيرا المراقبة العسكرية للمجتمع من خلال عضوية في عدة مجالس حكومية. لوان حركات الضباط بدت كأنها ايادي خلفية لخلق ظروف موائمة لاستمرار الحكم السياسي لصالح الجيش المصري، فإنه لا يزال اعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة حذرين من القول ان الدستور المصري الجديد سوف يقصيهم عندما يصدق المصريون على الوثيقة التى يجب ان تكتب قريبا. هم يقولون انه مهما يكن الدور الذي يكلفهم به الشعب المصري فإنه سيكون هوالدور الذي يجب عليهم تأديته باحترام. بالطبع، لوان الشعب المصري اراد بعض التقريب من النموذج التركي، فإن العسكرية ملزمة للوفاء بهذه المهمة. وفيما اذا اراد اعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة حقا ان يكونوا مثل نظيرهم التركي، فان عليهم ان يكونوا مشاركين بشكل اكثر مباشرة في عملية كتابة الدستور. بالرغم من ان بعض المثقفين، والقضاة، وبعض الوجوه الأخرى من المجلس القومي اسند لهم كتابة نسخة مبدأية من المباديء الدستورية من اجل الحفاظ على وجود العسكر في السياسة، فان دعمهم من غير المرجح ان يكون كافيا اخذا في الاعتبار عدم الثقة بين الجماعات الثورية ووجهات نظر الاخرين تجاه العسكر. في تركيا، وبالرغم من ان العسكر لم يشتركوا بشكل مباشر في كتابة دستور 1961، فقد حاول الضباط التدخل بعد ذلك بعقد كامل لتقييد الوثيقة التى اعتقدوا انها متحررة اكثر من اللازم. بعد ذلك باقل من عشر سنوات، تدخل الجنرلات الاتراك مجددا، وراقبوا عملية الكتابة بشكل مباشر للدستور الجديد (الذي تقوم الدولة الان بدراسته وتنقحيه واستبداله بوثيقة جديدة) والذي لم يعمل فقط على تقوية اذرع التأثير العسكري ولكن ايضا ابتكر طرقا جديدة للقوات المسلحة للتدخل في النظام السياسي. ان ادراج النموذج التركي من اجل مجموعات الضباط المصريين يفترض ايضا ان يكون هناك دعم واسع من الصفوة لذلك النظام، ففي حالة تركيا، تمتع الضباط بدعم القضاة، والمحامون، والاكاديميون، والصحافة، ورجال الاعمال الكبري، والاتراك العاديون الذين كانوا ملتزمين بالدفاع عن نموذج اتاتورك في مقابل مجموعات صغير للغاية من الاسلاميين والاكراد والذين تم اعتبارهم طويلا خارج التيار الرئيسي. بالرغم من بعض الدعوات رفيعة المستوى، مثل السياسي عمروموسي والقاضي هشام بسطاويسي، يوجد القليل من المؤيدين المؤثرين لعمل العسكر في السياسة المصرية. لن يشكل ذلك انذارا كبيرا للعسكر في حالة اذا فكروا في مضاهاة الاتراك. في عشية مظاهرات حديثة هدفت الى الضغط على المجلس العسكري للقيام ببعض مطالب الثورة، طالب اكثر من اربعة وعشرين حزب سياسي ان يقوم المجلس العسكري بتحديد متى وكيف سوف يقوم بتسليم السلطة للمدنيين. المكان الوحيد الذي يحظي فيه العسكر بالدعم هم الاخوان المسلمين، يمثل ذلك الأمر اهمية كبيرة ففي الحقيقة، كان الاخوان المسلمين لاعبا مركزيا في احضار مليون شخص الى الشوارع للتظاهر دعما للمجلس العسكري. بقدر ما هومهم ايضا، ان دعم الاخوان للعسكر ربما لا يرتاح اليه الظباط بهذه الحرارة. ان الاسلاميين في الاخوان لا يؤيديون العسكر بقدر ما هم يريدون التقليل من شأن مجموعات الثورة، والليبراليين، والاحزاب العلمانية التى تعارضهم. بالإضافة الى ذلك، فان الاخوان والضباط – تماما مثلما كانوا في بداية الخمسينات – اعداء اكثر من كونهم حلفاء. فبسبب دورهم، يمكن للاخوان ان يدعوا انهم اكثر قومية وافضل حكما لمصر اكثر من القوات المسلحة، الذين تم تدريهم في هيئاتهم بواسطة الولاياتالمتحدة والمباركيين. وايا ما كان الدعم الذي يقدمه الاخوان حاليا للعسكر والمجلس العسكري فهوبكل تأكيد تكتيكي ولا يمتد لكونه اقتطاعا من الدور السياسي للضباط بعد الانتقال الى قادة مدنيين. نهاية، فإن اكثر مظاهر النظام التركي اهمية تحت وصاية العسكر كانت هي التزام الضباط الاتراك الفردي الايديولوجي نحواتاتورك. فقد كان ذلك عاملا دافعا للأجيال من الضباط ومناصروهم من المدنيين. في المقابل، فانه يبدوغير واضحا تماما، ماذا يريد المجلس العسكري. فالمصريون ليسوا متعصبين سواء كانوا علمانيين اوديمقراطيين اواسلاميين اومستبدين. بخلاف رؤية ساذجة عامة عن الديمقراطية والاحترام للشعب المصري، يبدوالضباط مهتمون فقط بالاستقرار والحفاظ على مصالحهم الاقتصادية، والحفاظ على شرعية القوات المسلحة برغم كونها العمود الفقري لنظام فاقد الشرعية كلية على مدار 60 عاما. نتيجة لذلك، يبدوالعسكر راغبون في تسليم السلطة الى اي شخص يضمن هذه المصالح الثلاثة. انه نوع من الانتهازية السياسية التى تقتل النموذج التركي على ضفاف النيل. بدون اسباب مقنعة عما سيكون عليه شكل المجتمع المصري ودور العسكر في ادراك هذه الرؤية، لا يبدوان الضباط سيكونون قادرون على حشد هذا النوع من الدعم اللازم لكى تنزل النخب السياسية طواعية على قوتها المؤثرة من اجل الوصاية العسكرية. بسبب كل تلك الديناميكية السياسية، والطاقة والابداع التى تظاهر بها المصريون منذ سقوط مبارك، فقد عصفت بالبلاد مشكلات واهنة. متظاهرون مصرون على الثبات، مشاكل اقتصادية، دسائس سياسية، عنف متقطع، وحالة عامة من عدم اليقين. بالنسبة لبعض المصريين، يبدولهم من الضرورى ان يقبض العسكر على الأمور ليحافظ على مصار الفصائل السياسية في البلاد بينما يتم بناء مصر الجديدة. بعد كل ذلك، فإن الضباط الأتراك كانوا قد روضوا الفصائل التركية واحيانا بعض الجبهات السياسية العنيفة والبلاد الان حرة اكثر من اي وقت مضى. لكن هذا التحليل مردود، فالتغيرات الديمقراطية التركية، والتى تظل بعيدة عن كونها كاملة، حدثت رغما عن الجيش، وليس بسببه. وبغض النظر عما اذا محاولات تكرار التجربة التركية في مصر ستقابل بمعارضة قوية، وتوتر سياسي متزايد، والمزيد من عدم اليقين، والعنف المحتمل، كل ذلك يخلق ظروفا من اجل نشوء حكم اتوقراطي جديد. مع العديد من العيوب الأخرى المحتملة لمحاولات نسخ نموذج القوات المسلحة التركية، فعلى الضباط المصرين الا يفكروا في مجرد المحاولة. -------------------------------------------------------------------- نشر بعدد أغسطس 2011 من مجلة «فورين أفيرز»، ونقله عن الإنكليزية الأستاذ أنس حسن.