هذه المساهمة محاولة بسيطة للنظر لفكرة الديمقراطية من منظور النموذج المعرفي، وقد عنت لي الفكرة تأثرا ببعض مقالات أستاذي وأبي الروحي د عبد الوهاب المسيري عن النماذج الكامنة خلف المصطلحات والعلاقة بين الدال والمدلول واختلاف الحقل الدلالي للمصطلح طبقا للسياق الفكري. النماذج المعرفية النموذج المعرفي ببساطه هو بنية تصورية تتناول المرجعيات النهائية والصيغ الكلية للوجود الانساني، وتدور حول 3 عناصر أساسية وهي الإله والانسان والطبيعة، ومن خلال فهم طبيعة العلاقة بين هذه ال3 محاور ومن خلال بعض الأسئلة التي يمكن ايجازها تحت مصطلح "التجاوز" نستطيع ادراك موقف الانسان من الاله والطبيعة في النموذج. هل الانسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة أم هو متجاوز لها، أي ليس جزءا منها أو جزء يتجزأ منها وله استقلال نسبي عنها؟ هل هو مجرد وجود طبيعي محض؟أمانه يتميز بابعاد اخرى لا تخضع لعالم الطبيعة؟ ببساطه، هل الانسان سابق على الطبيعة متجاوز لها أم انها متجاوز له، سابقة عليه ؟وهل المبدأ الذي يحرك الكون متجاوز له أم كامن فيه؟ نستطيع أن نستخلص من كل هذا نموذجين معرفيين أساسيين: التوحيدي والحلولي التوحيد هو الإيمان بأن المبدأ الواحد ومصدر تماسك الكون ومرجعيته النهائية ومركزه ومطلقه الذي لا يرد الى شئ خارجه هو الإله خالق الانسان والطبيعة، الذي يمنحهك المعنى والغاية فهو مفارق لمخلوقاته لا يحل فيها او يتوحد معها ولكنه متصل بها أو كما يعبر د المسيري "هي علاقة اتصال وانفصال". وينتج عن هذا النظام الانسان الرباني، وهو كائن صاحب ارادة حرة رغم حدود الطبيعة والتاريخ واع بذاته وبالكون ومتجاوز لهما قادر على تطوير منظوماته الخلقية بمعزل عن حاجاته الطبيعية وجانبه المادي، وهو هنا مناقض ومقابل للانسان الطبيعي الذي سنجده في النظم الحلولية. الحلول على النقيض من النظم التوحيدية، نجد أن مركز الكون يحل في العالم ويمتزج الخالق بالمخلوق والإله بالعالم وتستوعب الطبيعة المركز ويرد اليها كل شئ فتسقط ثنائية الخالق والمخلوق ويتحول الانسان لمادة طبيعية محضة وتختفي المسافة بين الانسان والطبيعة فيصبح نفسير الكون كله ماديا بحتا ويصبح الإنسان جزء من الطبيعة وان تسيدها، وينتج عن هذه الانظمة، الانسان الطبيعي، وهو ظاهرة طبيعية مادية يتم تعريفه في اطار الطبيعة كوظائف بيولوجية ودوافع غريزية، فهو يعيش حسب قوانين الطبيعة غير متجاوز لها تسري عليه حتميات قوانين المادة لا يعرف ثنائيات أو مطلقات كلية، ترد كل جوانبه الانسانية والربانية الى المادة والطبيعة وقوانينها نستطيع بعد هذه المقدمة النظرية أن نقول دون خطأ كبير ان النموذج الحلولي هو المسيطر الأكبر في الثقافة والحضارة الغربية بينما النموذج التوحيدي ينطبق بشكل أكبر على النظام المعرفي الاسلامي، ومن هنا سنبدأ في تحليل الديمقراطية كفكرة وآليات بشكل مبسط في اطار هذين النموذجين. الديمقراطية الديمقراطية هي فكرة وآلية ممكن تنسب جذورها لتاريخ قديم في أثينا، ولكن ما نتحدث عنه هنا هو الديمقراطية الليبرالية،وقد بدأ انتشارها في الغرب في عصر النهضة وانتشرت افكارها مع الثورة الفرنسية والامريكية ونشأت وانتشرت بشكل أساسي لموجهة سيطرة كهنوت الكنيسة على الملك وشيوع الدولة الثيوقراطية،فقد كرست الديمقراطية لأفكار حقوق الانسان والمساواة وحق الشعب في حكم نفسه بنفسه والعديد من الأفكار التي نشأت في هذا السياق وكمنتوج طبيعي لسنون من مواجهة الاضطهاد الكنسي والتفاعل مع الأحداث التاريخية انتهاءا بشكل الديمقراطية التي ظلت تتطور حتى تناظر الشمولية السوفييتية وتصحح أفكارها مع الكساد الاقتصادي ومازالت تتطور حتى الآن لتتعامل مع ديمقراطيات اللوبيات وجماعات الضغط. نستطيع اذا دون خطأ كبير ان نقول ان الديمقراطية هي مجموعة من الأفكار والمبادئ والآليات التي استحدثها العقل الانساني لتطبيق فكرة حكم الشعب لنفسه وتكريس فكرة المساواة والعدل وتصنيع آليات في المحاسبة والمراقبة تضمن عدن اضطهاد الحكام للمحكومين، وهذه المنظومة تجدد وتحدث نفسها من قبل مفكريها على الدوام للتعامل مع أخطاءها التي تظهر كنتيجة طبيعية لأي انتاج فكري بشري يتفاعل مع الواقع وهي أنجع الأفكار المطبقة في ادارة الدول بشكل يكرس لهذه الأفكار حقا السياق الحلولي للديمقراطية رغم قبولي للديمقراطية كمبدأ ونظام حكم، لكن لا يجب ان ننسى في نفس الوقت نشوء الديمقراطية في سياق حلولي يضع الانسان والطبيعة مركزا للكون ولا يعترف بالمرجعيات المتجاوزة، وبالتالي فأكاديميا، نعم الديمقراطية تعني حاكمية الشعب فقط ولا يوجد بها مرجعية سواها والدولة لا دين لها والديمقراطية لا سقف لها ولا مرجعية ففي قلب الحلولية كل شئ نسبي وبالتالي يحرم المجتمع ويحلل ما يشاء. ولكن هل يعني هذا أن الديمقراطية كفر كمبادئ وأفكار؟ لا، فببساطه لم يكن من الممكن أن تؤطر الديمقراطية للمرجعيات المتجاوزة فيجب علينا بالطبع مراعاة السياق التي نشأت فيه، فالفكرة لا تكون في حد ذاتها كافرة، ولا يجب أن نعادي كل أفكار وآليات الديمقراطية لهذا السبب، بل أن نستوعبها في اطارنا التوحيدي الذي يختلف من حيث الثنائيات والعلاقة بين الإله والانسان والطبيعة، فالسؤال الذي نسأله هنا: هل أفكار الديمقراطية الرئيسية وأسباب نشأتها تتعارض مع الاطار المعرفي التوحيدي؟ بالقطع لا، فقد أكد الله سبحانه وتعالى في كتابه بل في كل الكتب والديانات السماوية على أهمية العدل والمساواة بين الناس، ويمنلئ ديننا الحنيف بالأحاديث والآيات التي تؤكد هذا المعنى، وليست الشورى الا دليلا على مقت الله تبارك وتعالى لاستبداد الحكام، بل وفرض سبحانه الشورى التي تعني مشاورة المحكومين. ولكن استيعاب الديمقراطية في الاطار التوحيدي له متطلبات. السياق التوحيدي يختلف الانسان في السياق التوحيدي عنه عن الحلولي، فالانسان في السياق التوحيدي ليس سيد الكون متوحد مع الطبيعة منتزعا لكل قدسية، بل هو كائن مستخلف في الأرض يشغل مركزها بالقبس الإلهي داخله، يؤمن بمرجعية متجاوزة وهي ربه الأعلى وهو خليفته في الأرض، فلا يجوز له أن يحلل حراما أو يحرم حلالا، ومن هنا بدأت الاجتهادات في الحالةالمصرية بشكل خاص والاسلامية بشكل عام لاستيعاب الديمقراطية في اطار لا يخالف هذ المرجعية المتجاوزة وظهرت تنظيرات عديدة لمفكرين مسلمين كثيرين مثل الغزالي والقرضاوي وطارق البشري وحسن الترابي و محمد سليم العوا ومحمد عمارة وراشد الغنوشي و دراسات رصينة لمعتز عبد الفتاح، ولكنها كانت في البداية فقط دراسات نظرية لم نرى تطبيقاتها نظرا لخضوع العالم العربي في قبضة احتلال داخلي علماني سلطوي بدأ في التحرر منه أخيرا بربيع الثورات العربية، وبدأ مخاض هذه الأفكار وتطبيقاتها مع نزول التيارات الاسلامية أرض السياسة ومعتركها بل وحتى التيارات السلفية البعيدة فطريا عن السياسة بدأت بمعاداة الفكرة ثم استوعبتها أخيرا وظهرت اتجاهات واجتهادات قبلت الديمقراطية في اطار المرجعية المتجاوزة، وبدأت الاجتهادات في هذه البلورة بمعركة "المادة 2" والتي تمثل المعركة في رأيي بين ديمقراطية توحيدية وحلولية، انتصر فيها المزاج العام للمجتمع المصري المتدين بطبعه وأصبحت "المادة 2 مادة ثابته كفكرة لا خلاف عليها". خاتمة مازالت النظرية السياسية الاسلامية في مرحلة مبكرة، فقد حرمت نظرياتها من الممارسة والتجريب والتفاعل لعقود طويلة، وقد بدأت الآن عهدا جديدا أظن انها سوف تفرز مع الوقت افكارها وابداعاتها الخاصة من داخل اطار فكري مختلف تماما عن الاطار الحلولي وصار واجبا على مفكري وفقهاء الامة التفاعل مع هذا الجديد ورفض الجمود حتى نضيف للعالم قبسا جديدا من المعرفة والحكمة من قطوف حكمة الخالق.