مؤخرا، أصبحت أطرق طريق القاهرة-الإسكندرية الزراعي أكثر من أي وقت مضى. عندما نبتعد عن البشر بمسافة معينه، نسقط عنهم بشريتهم ويصبحون مجرد أشياء تتحرك أمامنا، كالدمى أوأبطال الكارتون بلا حياة. أراقب الفلاحين من شرفة القطار، كأنها لقطات لفيلم أمر به أو أسير فيه، بدلا من أن أشاهده على شاشة أمامي. فيلم أعايشه وأعيش فيه! لم أكن أكترث للشخصيات التي أمر بها كلمح البصر، (مشهد عابر لحقل به فلاحون، أناس يقفون عبر الإشارة بانتظار مرور القطار، ليعبروا للناحية الأخرى من الطريق، أطفال يلهون في الترع بمنتهي البراءة والمرح ولا يدرون مدى الفقر والفاقة والبؤس الذي يعيشون فيه) كل تلك الشخصيات ربما لن أراهم في حياتي مرة آخرى، فوجودهم في حياتي لا يستغرق سوى ثوان معدودة. لكن لكل منهم حياة كاملة بمشاعرها وخصوصياتها وأفراحها وأتراحها وأسرارها. هؤلاء حتى وإن بدوا لي مجرد شخصيات كارتونية هامشية في فيلم حياتي أنا، إلا أنهم أناس حقيقيون، لهم حياه كاملة مثلي. (ماهذا الغرور؟! ربما كان مروري العابر في حياتهم للمحة بصر أيضا هوالآخر جزء من ديكورحياتهم. فكلنا أبطال وكلنا كومبارس كارتوني في نفس اللحظة). لم اشعر بمعاناة هؤلاء النسوة إلا عندما كنت أسافر صباح أيام الصيف، فقد اتيح لي آنذاك أن اقترب أكثر حيث يسقط القناع الكارتوني ويتمثلون بشرا حقيقيين. ففجر الصيف يأتي مبكرا. وفي السادسة صباحا، تكون الشمس في كبد السماء متألقة منذ ساعة كاملة، وكانت أفواج من الفلاحات يأتين من قراهن المجاورة بأحمالهن الثقيلة جدا (بدون مبالغة في ذلك) من حمام حي وبيض وجبن قَريش وبعض الخضروات لبيعها في المدينة. تصل رحلة المعاناة ذروتها عندما تفرغ الفلاحة حملها الثقيل من القطار القشاش علي ارضية المحطة، وليس رصيفها، ولمن لا يعرف فهناك ارتفاع لا يقل عن متر وربع بين مستوى الأرضية ومستوى الرصيف، ثم تنقله للرصيف المقابل. ولابد لها ان تفعل ذلك عدة مرات حتي تنتهي من افراغ حمولتها كاملة ونقلها للجهة المقابله (كل هذا يفترض أن يحدث في دقائق معدودة قبل تحرك القطار للمحطة التالية)، فتضطر الفلاحة للفقز عدة مرات (بأجسادهن الضعيفة غير العفية) لإفراغ هذا الحمل من القطار للرصيف المقابل. لا أحد يساعدها بالطبع لأنها تأتي وحدها (تساءلت مرة أين الرجال؟ أين أزواجهن؟ ثم تذكرت أن 30 بالمائة من أسر مصر العائل الأساس لها نساء لظروف مختلفة). بالطبع لا أحد يساعدها إلا عندما يهم القطار بالرحيل ويبدأ بالتحرك ببطء فعلا، ولازالت بضاعتها فيه وهي علي الرصيف المقابل مع جزء من البضاعة على الناحية الأخرى. مشهد درامي للغاية مليء بالشجون. الا توجد وسيلة نقل ادمية لهاتيك النسوة؟ هل جرب أحد النظر إليهن عن قرب؟ أوقعني القدر ان أستمع لحديث واحدة منهن، حيث سئلت عن عمرها. للوهلة الاولى، توقعت أنها تكبرني بنحو 15 عاما، ولكن بعد إجابتها صعقت لما علمت أنها تكبرني بخمس سنوات فقط! فالهموم تضيف عمرا وبؤسا على ملامح الإنسان لا يمكن محوه أوطمس معالمه. تلك الملامح البائسة المنهكة أصبح سمتا عاما لمصرنا: بيوتها ومعمارها يثيران الرثاء والشفقة – ولا اقول القبح— لأن البائس يكفيه بؤسهفلا ينبغي أن نضيف إليه القبح. القبح ضد الجمال، والجمال ترف للبؤساء، لا يملكون حتى أن يكونوا ضده. لا أحد يختار مصيره ابتداء، لكن ألا يوجد شئ يمكن فعله قد يجعل حياه هؤلاء النسوة أفضل وأيسر؟ لم أشعر بهؤلاء الفلاحات الا عندما اقتربت منهن مسافة كافية، وشعرت بإنسانيتهن وآدميتهن المنتهكتين، واللتان لم تعد تحركا الكثيرين أو تثيرا شفقة منذ زمن. ماذا حدث للناس؟ لماذا اصبح الاعتياد البليد سيد الموقف؟ اعتدنا امتهان الكرامة، فأصبح من يعترض مثيرا للمشكلات. اعتدنا مناظر الدم النازف .. اعتدنا أن يكون الحق للقوي كما اعتدنا احتقار الضعيف! ثم اصبح لا يخطر على بال أصلا لأنه تقزم في وعينا وأصبحنا حتى لا نراه! المشكلة المضحكة المبكية المقززة المحبطة أن الفقر لا يجلب معه إلا الرثاء والاحتقار! كأن أي منا يختار أبويه أوالبيئة التي يُنشّأ فيها! هي أمور قدرية لا يملك احد اختيارها ولا حيلة لأحد إزاءها. ومن لطف الله أن الله لا يحاسبنا عن أمور لا نختارها ولا يد لنا فيها؛ وإنما يحاسبنا فقط على ما نختاره بإرادتنا الواعية الكاملة. لكن من قسوة البشر أن يحاسب بعضهم بعضا على أمور نسوا انهم لا يختارونها أصلا. بل ولجهلهم، اعتبروها حقوق وامتيازات تبيح لنا التطاول على الآخرين والنظر اليهم بفوقية. ما يجعلني اشعر بالسقم دائما أن نفسي تأبي اعتياد القبح. لا أدري إن كان هناك من نخرج! لكنني أتمنى أن يكون هناك أمل في حياة أفضل لهؤلاء النسوة البائسات. أتمنى لو تمكنت من فعل شئ لهن (رغم قلة حيلتي وعجزي عن مساعدة نفسي أحيانا). ربما كان التركيز على العقل والاهتمام بالأفكار بالغ الأهمية؛ لكن يغدو ضربا من السخف أن تتوافر لي الحاجات الأساسية بينما لا تتوفر لكثير من الناس حاجاتهم البديهية. وأعلم أنني لو اقتربت أكثر، سأجد هناك من يفكر دون أن تتوفر حاجاته الأساسية! ما أسوأ الشعور بالعجز عن الفعل. عندما تصل بي تلك الأفكار السوداوية لسد السواد الحالك، أتذكر أن أمريكا منذ أقل من 250 عاما كان على غير صورتها الآن. وأوروبا في عصورها المظلمة، كانت علي نقيض حالها الآن تماما. ونحن الان لسنا قطعا في مثل عصور انحطاطهم، أتمنى أن يكون مستقبلنا أكثر إشراقا من واقعهم الراهن.