لقد أثارت ثورة تونس موجات من التحركات، فكانت مثل حجر ألقي في مياه راكدة صارت أمواجها تنداح في دوائر عديدة سواء بالنسبة للحاكمين و للشعوب. ونحن نعرف أنّ الذين يتربصون بنا الدوائر سواء في الدولة المزروعة _إسرائيل_ أو بين مؤيِّديها ومسانديها، يريدون إحداث ما أطلقوا عليه«الفوضى الخلَّاقة» لأنَّهم ينتظرون من إثارة ذلك النوع من الفوضى أن يعرفوا سائر ما تنطوي عليه شعوبنا من طاقات وإمكانات ظاهرة وباطنة، وما تشتمل عليه مجتمعاتنا. وذلك ليكونوا قادرين باستمرار على إحكام قبضتهم حول رقابنا. فما كاد العرب يستردون أنفاسهم اللاهثة المبهورة من موضوع «تقسيم السودان»باستفتاء أعرج اقتصر على الجنوبيّين دون الشماليّين حتى تطورت أحداث تونس، ثم داهمتنا الوثائق الفلسطينيَّة لمحادثات رجال السُلطة مع إسرائيل، وقبلها احتلال العراق والعمل على تفكيكه إلى أقاليم عدة بعد أن استمرت الفوضى فيه -الخلَّاقة وغير الخلَّاقة- كل هذه السنين، وقد نُحَمّل الدكتاتوريّين المسؤليَّة كلّها أو بعضها ولكنَّ الشعوب عليها مسؤوليَّات لا تخفى، ولا بد لها أن تعي تلك المسؤليات ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾(النساء:79). ونحن فيما نقدمه في هذا المجال نرجو أن نكون كمن يُوقِدُ شمعة في ظلام الفتنة، سواء نجمت عن«الفوضى الخلّاقة» أو عن أيّ شئ آخر أو عن أسباب كثيرة اجتمعت لكي تضع العرب –خاصة- والمسلمين –عامة- في هذه الفتنة التي تذر الحليم حيرانًا. فقد يكون من حقنا أن نُحَمّل الدكتاتوريّين مسؤوليَّات كثيرة، وأن ننسب إليهم كثيرًا من الفتن الدائرة في بلداننا؛ ولكن لا بد أن تعرف الشعوب –أيضًا- ما جنته أيديها وما شاركت هي فيه لتَتُوب عنه. وفي أمثال الشعوب رصيد كبير من الخبرات عبَّرت به عن هذه الحالة، وفي المثل قالوا: «يا فرعون من فرعنك؟ قال: لم أجد من يردني». إنّ عدم رد الشعوب ظلم الظالمين وانحرافات المنحرفين والوقوف مع المعْتَدَى عليه فى وجه المعْتَدِين ذنبٌ قال القرآن فيه: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الأنفال:25). إنّ كون الشعوب والأمم ترتكب ذنوبًا يمكن أن تنسب إليها بوصفها أممًا وشعوبًا أمر مسلّم -عندنا- جاء القرآن الكريم به في آيات كثيرة، وهو واقع ومشاهد لا يمكن إنكاره أو المكابرة به. وقد قص –سبحانه وتعالى- علينا في كتابه قصص أمم كثيرة، وشعوب لا تحصى عتت عن أمر ربها وعصت رسله فعاقبها الله عقابًا عسيرًا: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(العنكبوت:40) وقال -جلّ شأنه:﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ﴾(الحاقة:5: 8)، وقال -جلّ شأنه- فيما يمكن أن يكون قانونًا عامًا:﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(السجدة:21). كما أنّ قصة القرية التي كانت حاضرة البحر من قرى بني إسرائيل تقدم لنا نموذجًا هامًّا في هذا المجال. كما أنَّ الذنوب أو الأمور المنكرة -سواء أكانت باتجاه حقوق الله أو حقوق العباد- قد لا يكون مرتكبوها هم الأكثرون، وقد تبدو في بادئ الأمر قليلة ضئيلة؛ لكنّ السكوت عنها وعدم الإنكار على فاعليها يجعل الساكتين من الأمّة بمثابة المقرّين لتلك الاعتداءات والجرائم سواء أكانت في الداخل أم في الخارج. إنّ اجتراء فرد من أفراد أمّة مّا على ارتكاب اعتداءات وذنوب تجاه شعوبهم أو تجاه شعوب أخرى؛ ثمّ سكوت الآخرين على تلك الجرائم وتخلِّيهم عن نصرة المظلوم والإنكار على الظالمين المعتدين مرتكبي تلك الجرائم. وإذا أنكر شجاع منكرًا سارعوا إلى إسكاته ومعاقبته فتبدأ عمليَّة تغيير في مفاهيم الناس ورؤيتهم حتى يصبح المعروف في تلك الأمم منكرًا والمنكر معروفًا. وقد يقع الاعتداء على بلدان أخرى أو شعوب أخرى، ولا يجد المعتدون من يوقفهم ويمنعهم من العدوان. وقد يطغى حكّام مستبدون على شعوبهم فيستضعفونها ويسيرون فيها سيرة فرعون في بني إسرائيل. ولما كانت الانحرافات والذنوب تبدأ بأفراد فإذا لم يأخذ أبناء المجتمع أو الشعب أو الأمّة على أيدي أولئك الأفراد ويمنعوهم من الاستمرار فيها ويأخذوا على أيديهم فإنّهم يستمرؤونها وتبدأ بالانتشار، ويقلدهم الضعفاء فتنقلب الموازين ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا. وهنا لا بد من أن تقوم في المجتمع أو الأمّة ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ﴾ (هود:116)، ويتصدون للمفسدين ويمنعونهم من الاستمرار في الفساد والإفساد، وإلا استحق الشعب –كلّه- أو الأمّة كلها العقاب: فالفاسقون يستحقون العقاب لفسقهم ولذنوبهم وما عملت أيديهم، والساكتون عنهم سواء أكانوا راضين بما فعلوا مقرين لهم بما صنعوا، أو كانوا منكرين، لكن إنكارهم لم يبلغ مستوى الوقوف في وجوه الظالمين والطغاة والعصاة والمنحرفين، بحيث يردونهم عن الظلم ويمنعونهم من البغي ويحولون بينهم وبين تغيير مفاهيم الأمّة وقلب الموازين وتدمير القيم، فإنّهم مؤاخذون بذلك السكوت أو بذلك الضعف الذي سمح لأهل المنكر أن يستمروا في ذلك إلى أن قلبوا كل شيء وغيّروه. وفي الحديث: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ﴿ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ (المائدة : 78) وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- متكئًا فجلس فقال : لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أَطرًا [ وفي رواية ] ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (المائدة:78–81) ثم قال: «كلا والله لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهُونّ عن المنكر ولتأخذُنّ على يد الظالم ولِتَأطِرُنّه على الحق أطرا، ولتقصُرنَّه على الحق قصرا زاد في رواية أو ليضربَنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنَّنكم كما لعنهم([1])». وكما قص علينا القرآن الكريم نبأ تلك القرية، قص علينا نبأ فرد انحرف ويمكن لانحرافه أن يشكل ظاهرة إذا لم يجد من يوقفه ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾(الأعراف:175)فهذا فرد أنعم الله عليه وآتاه آياته فلم يدرك قيمة ما أنعم الله به عليه فانسلخ من تلك الآيات، فتعقبه الشيطان وتبعه وصار معه كظلّه لا يفارقه حتى صار من الغاوين ولم يعد لديه قدرة للرجوع عما سقط فيه. وبيّن لنا في قصته –جل شأنه- أنّ سبب الانحراف هو ذلك الإخلاد إلى الأرض الذي أنسى هذا الإنسان الدار الآخرة ولقاء الله فيها. وفي سورة الأنفال يقول الله –جل شأنه: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الأنفال:25). وللحديث بقية إن شاء الله