تمر قريبا ذكرى معركة يعبد بين الجيش البريطاني والمجاهدين القساميين في نوفمبر/تشرين الثاني 1935، والتي قاتل فيها الشيخ المجاهد عز الدين القسام حتى آخر رمق واستشهد فيها مع عدد من إخوانه، وكانت هي الشرارة التي أطلقت الثورة الفلسطينية الكبرى في الفترة (1936-1939). عن الدروس والعبر المستمدة من ثورة الشيخ عزالدين القسام (قدس الله سره)، وما تلاها من أحداث ودروس وعبر، كتب الدكتور سميح حمودة، المحاضر في التاريخ والعلوم السياسية بجامعة بير زيت الفلسطينية برام الله، ومؤرخ سيرة وحياة وجهاد الشيخ الشهيد، هذه الإطلالة: يصادف يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر الذكرى الرابعة والسبعين لاستشهاد الشيخ عز الدين القسّام في أحراش يعبد (سنة 1935). وتستجلب هذه الذكرى سؤالاً حول أهمية الدور الذي قام به الشيخ في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، وكيف يمكن لنا في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها قضيتنا الوطنية أن نعيد قراءة التجربة القسامية ونستلهم منها دروساً نافعة؟ إن القضية الأساسية التي تريد هذه المقالة عرضها هي أن جوهر فكر القسّام وحركته الثورية كان وما زال صحيحاً، وأن فهمه للوضع الفلسطيني وللتحدي الذي كان يواجهه المجتمع في وقته ما زال ينطبق على وضعنا الحالي. يمكن تلخيص فكر القسّام السياسي في قضيتين أساسيتين: الأولى أن العلاقة بين الحركة الصهيونية وبين الاستعمار الغربي (البريطاني تحديداً) هي علاقة عضوية، وأنّ اتصالهما هو اتصال جوهريٌ وليس عرضياً، ولذا فإنّه لا يمكن فكّه بسهولة. والثانية، أن المقاومة للاستعمار والثورة المسلحّة ضده، وليس المهادنة أو التوافق والتناغم معه، هي السبيل لحفظ الحقوق وردّ العدوان. وتبع في فكر القسّام بناءً على القضية الأولى رفضه التركيز فقط على مقاومة نشاط الحركة الصهيونية، وترك مقاومة الانتداب البريطاني نفسه (سياسة الحاج أمين آنذاك)، كما تبع من فكرته الثانية التحامه بالجماهير الشعبية الفقيرة، وعدم دخوله لدائرة الصراع العائلي الذي سطا على الحركة الوطنية، إلى دائرة العمل في صفوف الفئات الشعبية المسحوقة والمهمَّشة، والتي كانت الأكثر تضرراً من المشروع الاستعماري الصهيوني. إنّ كلّ الثّوار الذين انضموا للقسّام كانوا من الفلاحين والعمال البسطاء الذين دفعتهم حميتهم الدينية والوطنية للعمل المسلح ضد القوّات الإنجليزية. وبكل بساطة فقد قامت حركة القسّام بفتح باب الثورة أمام الفلاّحين الفلسطينيين. الآن وبعد مضي أكثر من سبعة عقود على حركة القسّام، وبعد صدور دراسات عديدة وواسعة لمرحلة الثورة الكبرى (1936 1939) التي قامت بعد استشهاده، نستطيع القول بكل ثقة، أن الفكر القسّامي هو الذي حرّك الجماهير وأطلق قدراتها وفاعلياتها، وهو الذي أجبر القيادات العائلية على الانخراط في حركة الجماهير، وعلى الوقوف في وجه الانتداب البريطاني، صانع المأساة ومخرجها، ومقاومة مشروعه بالعصيان والثورة. ولعل القارئ للواقع الفلسطيني المعاصر يجد المأساة في الفكر السياسي الفلسطيني الذي انكفأ من حالة مواجهة الاستعمار والامبريالية الغربية ورفض المهادنة أو التوافق والتناغم معها، إلى الارتماء في شباك مشاريعها التصفوية للقضية، بل وبالجنوح إلى الثقة العمياء بالغرب الإمبريالي، وبما يطلق عليه في خطابه الاستكباري "الشرعية الدولية"، التي هي في حقيقتها الواقعية غطاء للهيمنة الغربية وتحكمها بأمم الأرض. ولنا في التصريح الأخير للدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين، ومؤلف كتاب "الحياة مفاوضات"، أقوى دليل على ما نقول، والذي أشار إلى ضياع ثمانية عشر عاماً من التفاوض مع إسرائيل تحت رعاية هذه الهيمنة الغربية سدىً. من ناحية الفكر القسّامي المتعلق بالحركة الوطنية، فإننا نجد أن الانحراف الأعظم الذي أصاب الثورة في الصميم وأدّى إلى إجهاضها، هو انتقال الصراع بين التوجهات المختلفة على الساحة الفلسطينية من صراع سياسي إلى صراع دموي يعتمد على التصفيات الجسدية. ولقد كان للأحقاد المتراكمة عبر السنين بين جناحي المجتمع الفلسطيني (الحسينيين والمعارضين)، وللسياسة البريطانية المشجعة للانقسام والاقتتال، دور أساسي في انصراف الثورة عن مقاومة الإنجليز إلى الاشتغال بالاقتتال الداخلي، أي أنّ دخول النخبة السياسية المدينية إلى ساحة الثورة وسيطرتها عليها حوّلها من ثورة فلاّحية ضد الإنجليز إلى ساحة تتصارع داخلها القوى المحلية فيما بينها. بفضل تعاون عدد من أبناء العائلات الفلسطينية التي كان لها دور في الثورة الكبرى، والذين ورثوا أوراقاً شخصية تعود لتلك الفترة، ومنها على سبيل المثال أوراق مصطفى أرشيد وأوراق فخري عبد الهادي، أمكن إلقاء نظرة فاحصة وعميقة على انحراف الثورة الخطير عن أهدافها في مقاومة الاستعمار والصهيونية، وانجرارها لحرب أهلية قضت عليها في النهاية. وهناك عدة وقائع توضّح هذا الاستنتاج، وتبيّن كيف أكلت الثورة الفلسطينية أبناءها. إن دراسة وإعادة قراءة هذه المرحلة من تاريخ الحركة الوطنية [مسألة] بالغة الأهمية، فلو التزمت الثورة الكبرى بفكر القسّام الذي وجّه العمل الثوري ضد المستعمرين فقط، لتجنبت الموت على أيدي أبنائها وأيدي المستعمرين. وفي واقعنا المعاصر من الواضح أن الخطأ نفسه يتكرر، وأن الاحتكام إلى السلاح لفضّ النزاعات والخلافات السياسية [بين القوى الفلسطينية] أصبح أمراً مقبولاً ومشروعاً، ولا شك أن التداعيات السلبية الهائلة التي أعقبت اللجوء للاغتيال والعنف الدموي بين الفلسطينيين في قطاع غزة منذ 2006 لا يستطيع ذو عقل أن ينكرها.