رغم أن التدافع حالة قائمة في الإدراك العربي الإسلامي لحركة التاريخ العامة، وهو درجة محكومة من التنافس أو الصراع بين النخب والأمم والحضارات والأفكار المؤدي لبزوغ بعضها واندحار الآخر. لكن الغالب على الخبرة التاريخية العربية الإسلامية هو المحاولة المستمرة لبناء الإجماع. واتخذت وحدة الأمة أهمية قيمية خاصة تسبق أحيانا قيمة العدل أو فكرة الحكومة المثالية، أي كانت الوحدة مقدمة على العدل! لكن لا يمكن تناول التحول الديمقراطي منهجياً دون التعرض لمسار وطبيعة الدولة الحديثة المعروفة في أدبيات الاجتماع والتاريخ السياسي بالدولة القومية. فجوهرها هو التماهي بين الأمة والدولة، وتصبح الدولة هي إطار الأمة والتعبير الأسمى عنها. ويتحقق ذلك بسيطرة الدولة على إقليمها، واحتكارها لوسائل القوة والعنف، وهيمنتها على مختلف مناشط الحياة والاجتماع والاقتصاد. يؤدي ذلك تقليديا لتقويض استقلال الجماعات الأهلية التقليدية، الدينية والإثنية والثقافية، وإضعاف أو اندثار المؤسسات الوسيطة بين الفرد والمجتمع من جهة والدولة من جهة أخرى، وإخضاع التقسيمات المناطقية والجهوية المتميزة لإدارة الدولة المركزية، وقمع التشكيلات غير المتماهية مع الحكومة المركزية. ومنذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مال توازن القوى في الغرب لصالح دولة قومية حديثة، تتبنى رؤية معرفية إمبريالية في نظرتها للإنسان والطبيعة والمقدس. وأدى تراكم القدرة الضخمة للدولة القومية في الغرب على تركيز القوة وتطوير أدوات العنف والسيطرة، من مدافع وأساطيل وسكك حديد وتلغراف، إلى اتساع نطاق المشروع الاستعماري والهيمنة الامبريالية على العالم. دفع ذلك الدول الأخرى غير الأوروبية، كالدولة العثمانية ومصر واليابان لاحقا، للسعي نحو حيازة أدوات القوة المكافئة لقوة الدول الامبريالية واستعارة نماذج التفكير والتنظيم والتعليم والإدارة الأوروبية، مما ساعد على تعميم نموذج الدولة الحديثة، دولة السيطرة الشاملة، بالعالم. بلغت الدولة القومية الحديثة ذروة تجليها في نطاق الخبرة العالمية الأوروبية لحظة انفجار الحرب العالمية الثانية، وكانت النتائج كارثية وغير مسبوقة في التاريخ الإنساني، بما لا يحتاج للتفصيل. لكن الدولة القومية استمرت - في ما بعد الحرب- كأساس النظام الدولي المعاصر، مع تفاوت صيغتها القائمة من حيث درجة ونمط وأسلوب سيطرتها. فقد حسمت الصراعات الداخلية، بمختلف تعبيراتها ومجالاتها، منذ أمد طويل نسبيا، بعد نزاعات وتدافعات وحروب أهلية. وأصبحت الدولة تمثل التيار الرئيس وتعبر عن وجهة نظر الأغلبية، في الدول القومية الراسخة. ولم تعد الدولة هناك بحاجة لتوظيف أساليب القوة والبطش والقمع المباشر لتحقيق سيطرة الدولة، فقد أنجزت الأخيرة بالفعل مهمات السيطرة، وتم "صنع الإجماع"، بتعبير المفكر الأميركي نعوم تشومسكي. لذلك، أصبحت العلاقات بين الدولة ومؤسساتها وبين قوى المجتمع علاقات تدافع غير عنفي بمعظمها؛ إذ يشكل قانون الدولة ونظامها إطارا مرجعيا حاكما لذلك التدافع. في المقابل، لم يحسم التدافع في معظمه بين مختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية والسياسية داخل أغلب البلاد العربية والإسلامية. ولم تنجح هذه الدول حتى الآن في بناء الإجماع الداخلي، لا سلميا ولا عنفيا. فالدولة هناك غير قادرة على تأسيس نظام سيطرة مستقر، وبالتالي يصبح اللجوء إلى وسائل القمع والعنف أمراً شائعاً، ولا يعني هذا أن مؤسسة الدولة هناك تختلف جوهريا عن مؤسسة الدولة في الدول القومية المستقرة. طالت عملية التحديث الواسعة التي جرت تحت وطأة الضغط الاستعماري والتمدد الامبريالي الغربي في العالم الإسلامي عموما، والدولة العثمانية خصوصا، في ظل ما عرف بحركة "التنظيمات العثمانية"، كافة مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وأدت لزيادة مركزية الدولة، وظهور دورها أكثر في حياة الشعوب المكونة للامبراطورية، وتحولات هامة في توازن القوى الداخلي، وزيادة درجة الالتحاق بالخارج، وتفكك المؤسسات الاجتماعية التقليدية. واختفت الثنائية الكلاسيكية "أهل السيف" و"أهل القلم" والتي ولدت في عصور كانت الدولة "السلطانية" فيها محدودة النطاق، بينما تتسع فيها مساحة الحراك الاجتماعي والاقتصادي للجماعة الأهلية، مما أعطى للمؤسسات الوسيطة من نقابات مهنية أو أصناف، وطرق صوفية، وأوقاف، أدوارا رئيسة في حياة الأمة وحريات متسعة وحقيقية. فلم يكن فساد السلاطين أو صلاحهم هو العامل الحاسم في مجريات الأمور. بل كان السلاطين أنفسهم مادة لنمط طريف من الأدبيات أو المؤلفات التي عرفت ب "نصيحة السلاطين". ضمنت هذه الثنائية الكلاسيكية انحصار دور النخب الحاكمة في شؤون السلطنة والفروسية وقيادة الجيوش وجبي الخراج والدفاع عن البلاد، كما ضمنت استقلال أهل القلم من العلماء والفقهاء والقضاة والأدباء والكتاب بشؤون العلم والفقه والاجتهاد والتدريس والفتيا وإقامة العدل بين الناس. فلم يحاول السلاطين التدخل في شؤونهم أو أن يفرضوا عليهم ما لا يتفق مع اجتهادهم وقناعاتهم. لكن لم يخل الأمر من بعض التوترات. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ضعفت مؤسسة العلماء التقليدية التي كانت من أسباب استقرار المجتمع وترسيخ التوازن إزاء سلطة الدولة، نظرا لنفوذها لدى طبقة التجار التي كانت بدورها عاملاً هاما في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. كذلك، كان العلماء لعصور طويلة ممسكين بالقضاء وإدارة البلديات أيضا، إضافة لإشرافهم على الأوقاف التي لم تكن قد وصلتها يد الدولة بعد. وكان لمعظم العلماء دور ومكانة في التصوف والطرق المنبثقة عنه، والذي يمثل التعبير أو التنظيم الاجتماعي والثقافي للحياة الإسلامية. وشهد عصر التنظيمات العثمانية بدايات خصخصة أراضي الأوقاف لصالح طبقة اجتماعية جديدة سماها المؤرخون "أعيان الحضر" الذين مثلوا حالة شبه إقطاعية ملتحقة – جزئياً على الأقل- بالخارج. وتغير تنظيم القضاء باتجاه المحاكم المختلطة التي انحسر دور الشريعة والعلماء والقضاة فيها، وبدأت موجات الأوربة والتغريب والتطلعات نحو المثال الأخلاقي والثقافي للآخر الأوروبي، ونجم عن ذلك تهميش مؤسسة العلماء وإلحاقهم بالدولة. كانت الدولة الغربية، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، نموذجا مستلهما لبناء الدولة الحديثة في البلاد العربية والإسلامية؛ برغم فرضياته الأساسية الكامنة، من رؤية معرفية علمانية، وسياق تاريخي امبريالي، واقتصاد سياسي قائم على فائض النهب. فهي دولة مركزية مسيطرة، دولة تتماهى فيها الأمة، وهي وحدها المؤهلة لمنح حق المواطنة. دولة تحتكر وسائل العنف، وهي مصدر التشريع والشرعية. ما يتفاوت هو عمق تجذر ودرجة واستقرار نظام السيطرة المرتبط هو الآخر بمستويات الصراع والإجماع الداخليين. تقليدياً، لم تكترث مؤسسة العلماء كثيرا بالدولة، نظراً لأن سلطة الدولة وسيطرتها كانت محدودة المجال. ولكن حركة التحديث الواسعة التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية ولدت دولة هائلة النفوذ، تمتد سيطرتها من القانون والتشريع والأمن إلى الاقتصاد والتعليم والثقافة. بذلك أصبحت الدولة عاملا حاسما في تحديد هوية المجتمع، وتحولت بالتالي إلى مجال للصراع بينها وبين التوجهات الأخرى. يعاني عدد كبير من المجتمعات العربية والإسلامية من افتراق أيديولوجي وسياسي واسع؛ وتوترات بل حروب، إثنية ودينية وطائفية وقبلية وجهوية؛ وسيطرة وتحكم وسيادة مفروضة بالعنف والقمع؛ وفقدان ثقة بالدولة وعدم اكتراث بمؤسساتها وقوانينها، بل وبمصيرها ككل؛ مما جعل قيام نظام تداولي سلمي علي الحكم شبه مستحيل. تطرح هذه التحولات إشكاليات هامة في مسار التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في البلاد العربية والإسلامية، وربما يصبح الجدل حوله أقل أهمية، لدى مقارنته بإشكالية التوازن بين الدولة الحديثة المتغولة والمجتمع