د.مازن النجار \n\n أعلن مسؤولون في الجيش الأميركي هذا الشهر {يناير 2008} أرقاماً مثيرة للقلق حول الإصابات الدماغية غير المكتشفة لدى الجنود الأميركيين، فنسبة 20 بالمائة تقريباً من أفراد القوات الاميركية العائدين من الحرب قد غدوا ضحايا لإصابات الدماغ الرضّية (الصدمية)، ويشار اليها عادة بوصفها \"ارتجاج دماغي\".\nوكان الجنرال دونالد برادشو، رئيس مجموعة العمل المعنية بإصابات الدماغ الرضّية، التي شكّلها الجراح العام للجيش الأميركي، قد أعلن أن جيش الولاياتالمتحدة يواجه برأيه تحدياً يتمثل بفهم وتشخيص وعلاج الأفراد العسكريين الذين يعانون ارتجاجاً دماغياً معتدلاً.\nوكانت الصحافة البريطانية قد نشرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي تقارير عن دراسة واسعة لإصابات في الدماغ يعانيها جنود بريطانيون عائدون من العراق وأفغانستان؛ ويخشى أن يكون آلاف منهم قد تأذوا عقلياً بعد تعرضهم لانفجارات بالغة السرعة. \nوقد نقل عن ليام فوكس، المتحدث باسم حزب المحافظين في بريطانيا، تساؤله عن تدني مستوى العناية المتاحة للجنود البريطانيين. وتحدث هذه الإصابات لدى تعرّض الرأس لصدمة قوية أو وجود الجندي قرب انفجار كبير. وقال خبراء أن أفضل الخوذات وأحدثها لا يمكنها حماية الدماغ من موجات ارتدادية.\nوتذكر التقارير أن نحو 20 بالمائة من الجنود وعناصر البحرية الأميركيين عانوا \"إصابات دماغية غير حادة\" مما يصيب رؤوسهم من صدمات أو موجات ارتدادية لتلك الانفجارات. وتنفذ وزارة الدفاع الأميركية برنامجاً واسعاً للفحص الدقيق لقواتها العائدة من ساحة المعركة، واكتشف أن هذه الإصابات ينتج عنها فقدان الذاكرة وإحباط وقلق.\nاستمرار الأعراض\nالشائع علمياً أن إصابات الدماغ الرضّية، أو (TBI)، هي في معظمها ناجمة عن ضربة في رأس الشخص بشيء ما، أو ارتطامه به. وفي واقع الأمر، هي سبب شائع ومتكرر للحالات الرئيسة وطويلة الأجل للعجز عن العمل، لدى الأفراد الذين يبقون أحياء بعد إصابات في الرأس وقعت لهم في ساحات الحرب. علاوة على ذلك، قد يؤدي تكرار الإصابة (في الرأس) قبل الشفاء التام، من آخر إصابة سابقة في الدماغ، إلى أحوال مرضية مهلكة.\nبالنسبة لأفراد الجيش الأميركي، أغلب أسباب إصابات الدماغ الرضية شيوعاً هو انفجار عبوة ناسفة. يقول الكولونيل روبرت لابوتّا، جراح الأعصاب بمكتب الجراح العام للجيش، أن أقل من نصف أولئك الذين عانوا من إصابات دماغ رضية \"معتدلة\" في القتال قد أبلغوا عن أعراض مرضية متواصلة.\nويسعى الجيش إلى زيادة وعي أفراده بأعراض إصابات الدماغ الرضية، حيث يؤمل أن يؤدي ذلك إلى التماس الجنود لعلاجات مناسبة وسريعة، عندما يكون هناك احتمال لوجود إصابات في الدماغ.\nموضع تأثير الصدمة\nيقول أحد المسؤولين بقيادة \"البحث والمواد الطبية\" في الجيش أن أطباء الجيش يقومون بفرز هؤلاء الذين يعانون من إصابات الدماغ، ثم يقومون بتشخيصهم طبياً، حتى لا يظنون أنهم قد أصيبوا بالجنون، ويؤمل أن يساعدهم ذلك على التعامل أو التعايش مع أحوالهم المرضية.\nيمكن لإصابات الدماغ أن تحدث في موضع الصدمة ذاتها، ولكن يمكن أيضاً أن تقع في الجانب المقابل من الجمجمة، نظراً لأن تأثير الصدمة على الرأس يمكن أن يتسبب بتحرك الدماغ داخل الجمجمة، مصيباً مواضع داخل الجمجمة أيضاً على الجانب المقابل لموضع صدمة الرأس.\nوإضافة إلى ذلك، إذا حدث نزف داخلي بقحف الجمجمة نتيجة لقطع أوعية دموية، يستطيع ورم دموي داخل الجمجمة أن يوقع ضغطاً مؤذياً على الدماغ بما يتسبب بأعراض إضافية.\nالمعلوم طبياً أن إصابات الدماغ الرضية المعتدلة تكون مرتبطة عادة بصداع، وارتباك عقلي، واختلال التوازن، ودوخة، ومشكلات في الرؤية، ورنين في الأذن، وسوء طعم الفم، وإرهاق، وأرق، وتغيرات سلوكية، وصعوبة التركيز والتذكر. وتتفاوت مستويات الأعراض باختلاف موقع الارتطام ودرجة خطورة الصدمة.\nاضطراب \"كرب عقب الصدمة\"\nاضطراب \"كرب عقب الصدمة\" (PTSD) يصيب الجنود بعد التعرض للإصابات أو صدمات القتال؛ ويتمثل باسترجاعات مفزعة من الذاكرة، والمراوحة بين التنميل (الخَدَر) العاطفي واندلاع الغضب والشعور بالذنب والاكتئاب. وقد يعاني بعضهم فقدان الذاكرة والقدرة على الانتباه، أو الأرق والقلق. وغالبا ما يقعون فريسة الإدمان على المخدرات والكحول في مرحلة لاحقة من حياتهم. بيد أن المعروف بشكل أقل هو أن اضطراب \"كرب عقب الصدمة\" يؤدي إلى صحة بائسة جسدياً كما هي بائسة نفسياً.\nيلاحظ الباحثون أن الجنود الذين يعانون من هذا الاضطراب، سواء كان ذلك بعد خبرة قتالية أو بدونها، كانوا أكثر تعرضاً للوفاة بأسباب خارجية كالحوادث والمخدرات والانتحار. أما الجنود الذين أصيبوا باضطراب \"كرب عقب الصدمة\" نتيجة القتال فقد كانوا كذلك أكثر تعرضاً للوفاة بأمراض القلب ، بل وللمفاجأة، بسبب مختلف أنواع السرطان أيضاً.\nوقد أورد تقرير لمكتب المحاسبة العام التابع للكونغرس الأميركي أن إحدى الدراسات قدرت أن نحو 16 بالمائة من الجنود الأميركيين في العراق يعودون من هناك باضطراب \"كرب عقب الصدمة\"، رغم أن المسؤولين العسكريين يقولون أنهم لا يحتفظون بإحصائيات حول عدد الجنود الذين لا زالوا في الخدمة القتالية وتم تشخيصهم بذلك. فمعظم الجنود لا يتلقون فحوصات كشف جماعي.\nوكانت دراسة أخرى أجراها علماء الجيش الأميركي قد قدرت أن 18 بالمئة من الجنود الذين خدموا في العراق معرضون للإصابة باضطراب \"كرب عقب الصدمة\"، وهذه النسبة تترجم عددياً بأكثر من 60 ألف جندياً. وكلما زادت الاشتباكات بالنيران التي يخوضها الجنود يصبحون أكثر عرضة للإصابة بهذا الاضطراب. بينما يتنبأ خبير آخر -من محاربي فيتنام القدامى- أن مستويات اضطرابات كرب عقب الصدمة للجنود الأميركيين الذين خدموا في العراق ستماثل نفس المستويات لدى الجنود الذين قاتلوا في فيتنام.\nتكاليف باهظة\nمن ناحية أخرى، تقدر ليندا بيلميز، أستاذة المالية العامة بجامعة هارفارد، عدد الجرحى الأميركيين في حرب العراق بخمسين ألفا، بمعدل 16 مصابا مقابل كل قتيل، وهو معدل غير مسبوق مقارنة بالحربين الفيتنامية والكورية (أقل من ثلاثة جرحى لكل قتيل)، وبالحربين العالميتين (أقل من جريحين لكل قتيل). لكن إدارة بوش عجزت عن التخطيط للموجة المتزايدة من قدامى المحاربين الذين سيكونون في حاجة ماسة للرعاية الطبية ورعاية العجز. والنتيجة أن وزارة المحاربين القدامى ترزخ تحت حجم متزايد من دعاوى العجز وطلب متزايد على الرعاية الطبية.\nيعالج الآن اكثر من 200 الف من قدامى محاربي العراق وافغانستان بالمنشآت الطبية لوزارة قدامى المحاربين مما يفوق ما توقعته، وفقا لتحليل مكتب المحاسبة الحكومية، بثلاثة اضعاف. وتم تشخيص أكثر من ثلثهم باضطرابات عقلية ونفسية وايذاء جسدي بالغ بإصابات في الدماغ والعمود الفقري تصل لحد الشلل. في العامين الماضيين كانت وزارة المحاربين القدامى تخفض تقدير عدد قدامى المحاربين الذين قد يطلبون المساعدة وتكلفة علاج هؤلاء، مما كان يضطرها لاستجداء الكونغرس من أجل مليارات الدولارات في شكل مخصصات طارئة.\nوبافتراض تكرار نمط حرب الخليج الأولى، حيث طلب نصف قدامى جنودها رعاية طبية و44 بالمائة دعاوى عجز عن العمل، يتوقع أن تبلغ التكلفة العمرية لمدفوعات عجز ورعاية صحية لقدامى محاربي العراق وأفغانستان ما بين 300 إلى 600 مليار دولار بحسب مدة استمرار الحرب.