\r\n ان تركيا لم تخلق لعالم بوش. فالتصنيفات الاستقطابية التي يعرف بها الصراع العالمي مثل \"هم مقابل نحن\" و\"الطيبون والاشرار\" و\"كل من ليس معنا فهو ضدنا\" لا تنطبق على عالم من تدرجات الظلال كالعالم التركي. فتركيا مسلمة لكنها ليست اسلامية, ومتدينة في ثقافتها لكنها علمانية في بنيتها, وهي شرقية لكنها غربية, وهي مجاورة لمهد الغرب في اليونان ولصليبه في العراق. \r\n \r\n هنا في هذا البلد - الجسر الذي دفع التعصب الغربي احد اعضاء حلف الناتو الى القول بانه ليس اوروبيا بما يكفي لالتحاقه بالاتحاد الاوروبي, يدور صراع هائل. يضع هذا الصراع العلمانيين المتعجرفين في كفة والمسلمين الورعين في اخرى في معركة طاحنة هدفها رسم حدود كل من الدولة والمسجد. \r\n \r\n لا ينبغي للغرب ان يكون نافد الصبر اثناء متابعته لهذا الصراع. فقد تطلب الامر مئات السنين وحروبا لا حصر لها وموتا ساحقا قبل ان تضع الدولة والكنيسة الصيغ القانونية لانفصالها, والاسلام هو الديانة الاحدث عمرا بين ديانات العالم. وتكيفه للحداثة عمل شاق قيد التحقيق. \r\n \r\n ويتجلى ذلك على افضل نحو في تركيا. فهي دولة محافظة دفعها دفعا الى العلمانية على الطريقة الغربية في عشرينيات القرن الماضي مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال اتاتورك. وهي الان تجهد في تحديد الموقع الذي يمكن للاسلام السياسي الصاعد ان يحتله في تلك الجمهورية العلمانية. \r\n \r\n يعجبني هذا النزاع. فهو حيوي ومفتوح رغم تصنيفاته الفجة والمضللة: \"الفاشيون العلمانيون\" التابعون للمؤسسة الاتاتوركية في جانب, وبمواجهتهم \"الفاشيون الاسلاميون\" من اتباع حزب العدالة والتنمية الحاكم في الجانب الاخر. \r\n \r\n آخر الجولات في هذه المنازلة كانت الشهر الماضي عندما اصدرت المحكمة العليا في تركيا قرارا ضد رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان, ذي التاريخ الاسلامي والمتمسك بالتعاليم الاسلامية, حول قضية ذات قيمة رمزية عالية. \r\n \r\n فقد قضت المحكمة بان التشريع الذي مرره اردوغان في شهر شباط الماضي والذي يسمح للنساء اللاتي يضعن الحجاب بدخول الجامعات التركية ينتهك المبادئ العلمانية التي ينص عليها الدستور التركي. \r\n \r\n انا شخصيا لدي استجابة مزدوجة لهذه المسألة. اولا, ينبغي السماح للنساء في عمر الدراسة الجامعية ان يرتدين ما يرغبن في ارتدائه انسجاما مع قناعاتهن الشخصية. وفي هذه الحالة يكون قرار المحكمة غير مقبول. \r\n \r\n ثانيا, ان الاساس العلماني لتركيا الحديثة كان مهما جدا في اقامة هذا المجتمع الاكثر تسامحا بين المجتمعات الاسلامية. ولا ينبغي لذلك الاساس ان يغمط من دون ان يدافع عنه احد خصوصا في بيئة شرق اوسطية حيث الديمقراطية نادرة والاسلام فعال. وتبعا لذلك, يكون قرار المحكمة تحديا مطلوبا لحزب العدالة والتنمية يطالبه باثبات جدراته الليبرالية. \r\n \r\n عند الموازنة بين الاثنين, اجدني منحازا الى المحكمة. انني على ثقة تامة من ان النساء التركيات سوف يكسبن حق ارتداء الحجاب في اي مكان وفي المستقبل غير البعيد. لكني لست على ثقة تامة بان الاسلمة الزاحفة التي يرعاها حزب العدالة والتنمية مرتبطة بالتزام غير قابل للزعزعة بالديمقراطية العلمانية, كما يؤكد اردوغان. \r\n \r\n فلندع الحزب يدفع استحقاقاته, وليكن ذلك عن طريق المواجهات المتكررة مع المحكمة ان تطلب الامر. فتركيا مختبر للديمقراطية الاسلامية المعتدلة. وعلينا ان لا نتسرع في دفع التجارب الى نهاياتها. فليس الحجاب اسهل من نزعه. \r\n \r\n ان لاردوغان وحزب العدالة والتنمية شعبية في واشنطن واوروبا. في حين تواجه المؤسسة العسكرية - القضائية العلمانية وقتا عصيبا لم تعرف له مثيلا منذ ايام اتاتورك, اما في مؤسسات الخدمة المدنية مثل التعليم والصحة وغيرها فان حيازة اوراق الاعتماد الاسلامية المنسجمة مع مبادئ حزب العدالة والتنمية تعتبر امرا لا بد منه لمن يريد ان يرتقي في المناصب الخاصة بهذه المجالات. \r\n \r\n وقد رافقت هذا التحول في مراكز السلطة تغييرات مهمة في الاعراف السائدة حيث يشترط للحصول على الوظيفة المناسبة او الزوج المناسب اظهار معالم التقوى. ومن بين هذه المظاهر الحجاب الذي تضعه النساء والفتيات. ومن الملاحظ ان الاعلانات الموجهة للنساء في الصحف والتلفزيون صارت تلتزم بالاكمام الطويلة والفساتين السابغة لارضاء مشاعر المسلمين المتدينين. وبدأت الشواطئ التركية تألف مشهد بدلة السباحة النسائية التي تغطي المرأة من رأسها الى اخمص قدميها والتي تعرف باسم \"الحشمة\". \r\n \r\n لا اعتقد ان تركيا في طريقها الى ان تصبح دولة اصولية, او انها تضع النموذج الايراني نصب عينيها. فالاتراك ليسوا \"فاشيين اسلاميين\". لكني, في الوقت نفسه, لا اعتقد ان حزب العدالة والتنمية خال من الجيوب الراديكالية التي تتعارض مع صورة البلاد التي صاغها اتاتورك. \r\n \r\n سيكون على المحكمة نفسها ان تنظر قريبا في قضية تتعلق بمنع اردوغان وسبعين من اعضاء حزبه من العمل في السياسة بدعوى انهم يهدمون العلمانية. ومن شأن حكم كهذا ضد الحزب الذي فاز ب 47 بالمئة من الاصوات العام الماضي ان يشكل خروجا صارخا على الديمقراطية. \r\n \r\n لذا ينبغي على المحكمة ان تتجنب اصدار مثل هذا الحكم, لكني سعيد لان التهديد بصدور مثل هذا الحكم قائم. فلو انه صدر, فاني على ثقة من مجيء خليفة لاردوغان وربما لحزب العدالة والتنمية. \r\n \r\n ان التنازع على قلب تركيا وروحها لن يخمد قريبا وهو تنازع صحي ومفيد ما دام منفتحا. وعلى الغرب ان يفعل كل ما بوسعه للمحافظة على هذا الانفتاح حتى ولو شابته جرعة عابرة من \"الفاشية العلمانية\". \r\n