فبينما تقع مسؤولية هذه العمليات على قوات كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وكندا وهولندا، يلاحظ أن قوات ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ترابط في المناطق الآمنة البعيدة عن الخطر، بسبب رفض هذه الدول تعريض قواتها لخطر العمليات العسكرية المباشرة. وبالطبع فإن هذا ليس توزيعاً عادلاً للأدوار فيما يبدو. وبسبب زوال خطر تهديدات القبضة الفولاذية التي مثلها \"الجيش الأحمر\"، والتي كانت قد خيمت بظلالها الثقيلة على منطقة أوروبا الوسطى خلال فترة الحرب الباردة، فإن أمام حلف \"الناتو\" فرصاً أفضل لإعادة تشكيل هويته وهياكله. ثم إن بقاء الحلف يعني الكثير بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية في عالم يتوقع أن تتعدد أقطابه مستقبلاً، بذات القيمة التي كان يرمز إليها الحلف خلال فترة الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي والغربي. وما أن ننظر إلى شرفة المستقبل المشرعة على أبواب عصرنا الحالي باعتباره عصراً لنهوض \"القوى الباسيفيكية\"، ومع ما نراه من بروز ملحوظ لنفوذ الصين في المسرح الدولي، مصحوباً بتنامي الدور الروسي أيضاً على امتداد المنطقة الأوروبية- الآسيوية بأسرها، حتى ندرك مدى أهمية استمرار التحالف الأميركي- الأوروبي. \r\n \r\n ولنواجه الواقع الذي نحن إزاءه اليوم. فخطر احتمال استعادة حركة \"طالبان\" سيطرتها على أفغانستان، لا يمكن مقارنته بالخطر الذي واجهته ألمانيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق. وبما أن هذه هي الحقيقة، فهل من عجب إن غيَّرت برلين سلوكها السلبي إزاء الحروب، وهو السلوك الذي طبعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ عليه، فبدلاً من أن ندفع بألمانيا ونطالبها بالقيام بما لا تجيده في أفغانستان -مكافحة التمرد عسكرياً- فربما يكون الأفضل لحليفاتها في \"الناتو\" أن تثمن الدور الحالي الذي تقوم به ألمانيا عن إجادة ومعرفة تامة - وهو دورها في بناء الأمة- في الجزء الشمالي من أفغانستان، الذي يتسم بقدر نسبي من السلام والاستقرار الأمني. \r\n \r\n وينطبق الأمر نفسه على إيطاليا وإسبانيا اللتين ترابط قواتهما في شمالي أفغانستان. ذلك أنه يصعب أن نتوقع من الدول الأعضاء في الحلف، القيام التلقائي بالمهام الخارجة عن النطاق الأوروبي التقليدي، في عالم ما بعد الحرب الباردة. بل يمكن لهذه الدول أن تشارك مشاركة طارئة وفي حالات بعينها، بما يساعد في تحسين توزيع الأدوار في الحلف الأطلسي، ومن ثم تعزيزه. \r\n \r\n يبدو حلف \"الناتو\" في تشكيلته الحالية، مؤسسة متفاوتة الأدوار والقدرات، وتعكس التباين الواضح بين القوة العسكرية لشتى الدول المنضوية فيها. \r\n \r\n \r\n ومنذ سقوط حائط برلين، ظل التفويض الذي يعمل به حلف \"الناتو\" محصوراً في مهمة واحدة هي: الدفاع عن أمن الدول الأوروبية. إلا أن طبيعة مهام الحلف اختلفت كثيراً بعد ذلك، لتشمل تولي مهام ثلاثية البعد إزاء القضايا الدولية مثل: الإرهاب، وردع انتهاكات حقوق الإنسان، وإقامة الشراكات العسكرية مع الديمقراطيات الناشئة في شتى أنحاء العالم، وأمن الطاقة، وردع الانتشار النووي، والتصدي لنشوب أعمال الفوضى والعنف في الدول غير المستقرة. ويستلزم اتساع المهام التي يقوم بها الحلف في الوقت الحالي، إحداث التحول المطلوب في هيكليته، باتجاه بناء قوات الاستجابة السريعة، خلافاً لما هو عليه حال وحدات المشاة التقليدية البطيئة التي لا تزال تكلف بمثل هذه المهام. وللأسف فإن الشكوك تحيط الآن بمدى قدرة \"الناتو\" على إنشاء قوة الاستجابة السريعة هذه -وهي القوة التي كان قد اقترح إنشاءها وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد في عام 2002- بسبب ازدواجية المهام التي يقوم بها الحلف في كل من أفغانستان وجمهورية كوسوفو الناشئة، إضافة إلى عجز غالبية الدول الأعضاء فيه عن إنفاق ما يعادل نسبة 2 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي على أقل تقدير، على ميزانياتها الدفاعية. \r\n \r\n وفي ظروف كهذه، فإن من الطبيعي أن يقع العبء الأكبر داخل الحلف على دول مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا، قياساً إلى الدول الأعضاء الأخرى. ولنذكر هنا أن حلف \"الناتو\" قد عرف بكونه منظمة تعددية الأدوار والعضوية. فإبان الحرب الباردة كانت دول \"الشمال\" هي التي وقع عليها عبء إظهار العضلات العسكرية أمام الخصم السوفييتي المتنمِّر، في حين انحصر دور دول \"الجنوب\" على مجرد المساندة والموالاة -باستثناء اليونان التي كثيراً ما انتقدت على نشاط دورها العسكري في الحلف. ويذكر، في هذا المقام، أن فرنسا وتحت تأثير لحظة ديجولية عنيدة، قررت الانسحاب من الهيكل العسكري الموحد للحلف، على رغم بقائها فيه وتوليها منصباً في لجنته العسكرية في عام 1995. \r\n \r\n وفيما لو نشبت حرب في أي من الدول الأوروبية، فإن الدور القتالي الأكبر فيها سيقع على القوات الأميركية، بكل تأكيد. ولما كان هذا هو واقع الحال، فلماذا التذمر إذن من أداء الدور نفسه في أفغانستان، وخاصة أن الولاياتالمتحدة هي الدولة التي تحملت أصلاً عبء غزو أفغانستان؟ والإجابة أنه لم يحدث قط لقوات الحلف أن نشرت في أي منطقة نزاعات مسلحة طوال فترة الحرب الباردة، ما يعني إخفاء التفاوت الذي ظهر مؤخراً في أدوار الدول الأعضاء في الحلف. وليس ذلك فحسب، بل إن الحلف نفسه قد اتسعت عضويته لتشمل دولاً أضعف عسكرياً في كل من أوروبا الوسطى والشرقية. وهذا ما يجعل من الطبيعي جداً أن يبدو حلف \"الناتو\" في تشكيلته الحالية، مؤسسة متفاوتة الأدوار والإمكانيات، وتعكس التباين الواضح بين القوة العسكرية لشتى الدول المنضوية فيها. ومهما يكن فإن في استمرار الحلف ما يخدم الاستراتيجية الأميركية الأكثر شمولاً: خلق شبكة واسعة من الترتيبات الدولية والمؤسسات الليبرالية التي تعمل تدريجياً على رفع عبء المهام العسكرية والأمنية الباهظة التكلفة التي تثقل كاهل أميركا وحدها حالياً. \r\n \r\n \r\n \r\n روبرت دي. كابلان \r\n \r\n زميل بمركز \"الأمن الأميركي الجديد\" بواشنطن \r\n \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"نيويورك تايمز\" \r\n \r\n \r\n