\r\n لا شكّ في أن العاهل السعودي سيناقش العديد من هذه القضايا مع الأوروبيين وسيُطلعهم على وجهة نظره بشأن ما ينبغي فعله، لمنع انجرار المنطقة إلى مزيدٍ من العنف وعدم الاستقرار. لذا، لا بد من التنويه هنا بضرورة أخذ وجهة نظر العاهل السعودي على محمل الجد. فالمملكة ليست فقط احدى أهم الدول الرئيسية في المنطقة التي تهتم حالياً بإطلاق مبادرات دبلوماسية تنسجم بالمناسبة بشكل واضح مع المصالح الأوروبية بل إنّها أيضاً الدولة العربية الوحيدة التي تتمتع حالياً بما يكفي من النفوذ السياسي والاقتصادي لإعطاء المقترحات ما تحتاجه من زخم إقليمي. لذا، فإن المملكة العربية السعودية شريك مشروع وعدم الاعتراف بهذه الحقيقة، سيؤدي إلى إضاعة فرصةِ التعاون مع شريك إقليمي مهم. \r\n \r\n تأتي تحركات المملكة الأخيرة على طرفي نقيض مع نهجها التقليدي الذي اتسم بالرضا عن الذات ودفن الرأس في الرمال. فنتيجةً لإدراكها بأن البيئة الأمنية الإقليمية من حولها بدأت تنهار، بادرت المملكة في عهد الملك عبد الله إلى القيام بدور أكثر تصميماً على مواجهة التطورات السلبية التي تشهدها المنطقة. وفي سياق هذا الدور، سعت المملكة لتعزيز الحوار حول بعض أكثر القضايا إلحاحاً في منطقتي الخليج والشرق الأوسط الموسع. ففي مارس 2007، استضافت المملكة قمّة جامعة الدول العربية في الرياض للمرة الأولى حيث وافق الزعماء العرب بالإجماع على إعادة إحياء خطة الملك عبد الله للسلام مع إسرائيل، التي كانت قد بلغت من العمر خمس سنوات. وتدعو هذه الخطة إلى اعتراف العرب بإسرائيل في مقابل صفقة لتحقيق السلام الشامل. لذا، تمثّل خطة الملك عبد الله دعماً واضحاً للحلّ القائم على أساس الدولتيْن ولعملية التطبيع مع إسرائيل. كما أنّ حصول الخطة على التأييد الواضح لجميع الزعماء العرب الذين حضروا قمّة الرياض، يعني أيضاً أنّ المملكة نجحت في تحويل مقترحها الأصلي إلى مبادرة عربية تدعمها وتوافق عليها الآن جميع الدول العربية. \r\n \r\n ثمة طائفة من التحرّكات السعوديّة الأخرى التي لا توازي قمّة الرياض في أهميتها، ومن بينها: «اتفاقية مكة» التي وضعت حدّاً للعنف بين الفصائل الفلسطينيّة المتنافسة، واستمرار الدعم السياسي والاقتصادي، وهو الأهم، للحكومة اللبنانية، فضلاً عن الضغط السعودي المتزايد على سوريا والتزام المملكة الكامل بقرارات مجلس الأمن الدولي المتّصلة بكشف المتورطين في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري. كما أنّ المملكة قامت بدور فاعل في الوساطة التي أفضت إلى اتفاق الحكومتيْن السودانية والتشادية، على احتواء المواجهات الحدوديّة التي أفرزتها أزمة دارفور. \r\n \r\n هذا، ولم تتردد المملكة أيضاً في انتقاد الولايات المتّحدة علناً بسبب ما اعتبرته سياسات أمريكيّة خاطئة. وفي الشأن العراقي، وصف العاهل السعودي وجود القوات الأمريكية في العراق بأنّه «احتلال أجنبي غير مشروع»، ليعكس بذلك وجهة النظر القائلة بأنّ الولايات المتّحدة عاجزة عن بناء استقرار العراق ولا تمتلك أي استراتيجية لتحسين الوضع الداخلي فيه، ولو بصورة تدريجية على الأقل. هذه المواقف والتحرّكات السعودية ساهمت في بلورة صورة المملكة كطرف فاعل على الساحة الشرق أوسطية، وكدولة صمّمت على ممارسة تأثيرها في القضايا الإقليمية الحاسمة. \r\n \r\n ونظراً إلى أن الولايات المتّحدة في ظل إدارة بوش تفتقر إلى تلك الأدوات السياسية اللازمة لضمان الاستقرار في المنطقة، فإنّ المملكة باتت اليوم بحاجة إلى شركاء خارجيين إضافيين لمواصلة السعي لتحقيق أهدافها. فبكل بساطة، لا تستطيع المملكة تحمُّل جميع أعباء تحديات الشرق الأوسط بمفردها. وذلك لأنّ الضغوطات التي تستطيع المملكة فرضها والحوافز التي يُمكنها تقديمها لا تكفي للنهوض بمثل هذه الأعباء. ولأنّ أمن الشرق الأوسط على رأس الأجندة الأوروبية، فإن دخول المملكة في شراكة مع دولة مثل ألمانيا قد يحقق الكثير. وفي هذا السياق، يُمثّل الوعي المتزايد داخل الدوائر الدبلوماسية الألمانية للأهمية المركزية التي يكتسبها الشرق الأوسط، نقطة الانطلاق المناسبة نحو بناء مثل هذه الشراكة. \r\n \r\n إنّ ألمانيا قادرة على الاضطلاع بدور مهم في منطقة الشرق الأوسط. لكنّ مستوى تأثيرها في المنطقة ظل في الغالب أكبر بكثير مما تراءى لبرلين. ونظراً إلى حقيقةِ أنّ ألمانيا لم تكن يوماً قوّةً استعمارية في الشرق الأوسط، الأمر الذي يُحررها من سلبيات مثل هذا الماضي، سيكون من السهل عليها الاضطلاع بدور الوسيط المحايد والنزيه وتطوير نفسها كوسيط بين الأطراف الإقليمية المتنازِعة. ففي مناسبات عديدة، ساهمت ألمانيا في تسوية مشكلات حساسة ارتبطت بعمليات عربية إسرائيلية لتبادل الرهائن. وأثناء فترة رئاستها الأخيرة للاتحاد الأوروبي، استطاعت ألمانيا إعادة إحياء محادثات الرباعية الدوليّة بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط. عموماً، تتمتع ألمانيا بعلاقات مهمّة ومتينة وجديرة بالثقة مع كلّ أطراف منطقة الشرق الأوسط. \r\n \r\n ولكون ألمانيا اليوم دولة أوروبية قياديّة، فإنها في موقع يُمكّنها من التفاوض حول المواقف الأوروبية المشتركة من القضايا الحاسمة في منطقة الشرق الأوسط، واستخدام مكانتها لمنع الأزمات وبناء الثقة بين مختلف الأطراف الإقليمية. كما أن حضورها الاقتصادي في المنطقة وطيد. وفي ظل التقديرات الحالية التي تشير إلى أن الفائض في ميزانيات دول الخليج العربية سيبلغ خمسة تريليونات من الدولارات بحلول عام 2010، وأنّ معدل دخل الفرد سيرتفع بالتالي إلى 78.000 دولار سنوياً؛ فإن ألمانيا ستعزز، بالتأكيد، مستوى استفادتها من هذا الازدهار الذي سيدوم طويلاً. ومن شأن تعزيز علاقاتها مع المملكة أن يدعم أيضاً الجهود السياسية التي تحتاجها المنطقة، لاسيما أن البلديْن لديهما مصالح إقليمية مشتركة. \r\n \r\n تُمثل المسألة الإيرانية مثالاً واضحاً حيث يمكن لتعزيز التنسيق بين ألمانيا والمملكة أن يؤتي أُكله. فكلا البلدين لديه نفس الهدف الإستراتيجي الرئيسي: منع إيران من حيازة أي قدرة عسكرية نووية. ولمنع الحرب المحتملة مع إيران، ينبغي على المملكة باعتبارها دولة عربية خليجية لها ثقلها وألمانيا باعتبارها دولة أوروبية كبرى، أن تنسقا مقاربتيْهما لكي تدرك طهران مدى خطورة الوضع. وقد استخدمت المملكة بالفعل قنوات اتصالها مع طهران لتحذير المسؤولين الإيرانيين من مغبّة التمادي في سلوكهم غير المقبول. فعندما زار الرّئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الرياض في أوائل مارس 2007، أفادت مصادر موثوق بها أن الملك عبد الله أخبره بشكل مباشر وصريح بأنّه يجب على إيران أن تتوقف عن التدخّل في الشؤون العربية وأنْ لا تستخفّ بالتهديد العسكري الأمريكي، في ضوء تحدي طهران المستمر لقرارات مجلس الأمن الدولي. هنا، تتمثل رسالة العاهل السعودي بأنّه ينبغي على تصرّفات إيران أن تأخذ بعين الاعتبار استقرار الجوار الخليجي بأسره، بدلاً من التركيز فقط على العلاقة العدائية بين طهران وواشنطن. وقد تتعزّز هذه الرسالة أيضاً من خلال التعاون السعودي الألماني على صعيد التعامل مع إيران. \r\n \r\n بالنسبة إلى المملكة، تمثّل ألمانيا شريكاً رئيسياً يعود تاريخ علاقاتها الثنائية معه إلى معاهدة الصداقة التي أبرمها الجانبان في عام 1929، أيْ حتى قبل تأسيس الدولة السعودية الحديثة رسمياً. كما أن الحقيقة المتمثّلة بأنّ المملكة من أكبر مُصدّري النفط في العالم وأهم دولة إسلامية وتقع في المنطقة الأسرع نموّاً في العالم، فضلاً عن كونها دولة عربية رئيسية تهتم بتعزيز وضمان أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط؛ حقيقةٌ تعني أنّه من مصلحة ألمانيا أيضاً تطوير علاقاتها الثنائية مع المملكة. وفي ما يخص جملة من القضايا الإقليميّة الشائكة، مثل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وبرنامج إيران النووي وتقليص النفوذ الإيراني في العراق، فإنّ السياسات الألمانية قادرة على التأثير فيها جميعاً. لذا، فإن أي اتفاق سعودي ألماني يؤطّر الخطوات التي يجب اتخاذها لتعزيز الاستقرار الإقليمي، سيُمثّل رسالة قويّة وعامل استنهاض للطاقات والهمم التي ستُحشد حول هذا الاتفاق. \r\n \r\n لم تَعُد المملكة العربية السعودية اليوم كما كانت قبل عشرِ أو عشرين سنة. إذ تشهد المملكة حالياً تحوّلات على العديد من الجبهات وتواصل إدخال تغييرات على مستويات المجتمع كافّة. ولئن بدت هذه التغييرات غير كافية في نظر البعض، إلا أنّ إنكار آثارها بعيدة المدى أمرٌ مستحيل. كما أنّ الملك عبد الله نأى بنفسه عن النزعة العربية نحو لوم الآخرين بسبب معضلات الشرق الأوسط حينما قال إنّ اللوم «يجب أن يقع علينا نحنُ زعماء الدول العربية. إن خلافاتنا الدائمة ورفضنا القبول بسبيل الوحدة كلّ ذلك هو الذي دفع الدّول إلى فقدان ثقتها في مصداقيتنا والأمل في حاضرنا ومستقبلنا». هذه هي القاعدة التي على أساسها اعترفت المملكة بأنها بحاجة لاتخاذ زمام المبادرة، وعلى أساسها أيضاً ينبغي أن تتلقى المملكة الدعم الإقليمي والدولي. \r\n \r\n *مدير برنامج الدراسات الدولية بمركز الخليج للأبحاث \r\n \r\n [email protected] \r\n