وعقد بوش منذ وقت قريب اجتماعاً لعدد من الشخصيات السياسية التي عملت في الإدارات السابقة من أجل الإصغاء إلى ما لديها من اقتراحات ونصائح. واستثنى الرئيس بوش من هذه الشخصيات هنري كيسنجر (مستشار الأمن القومي السابق في إدارة نيكسون وأحد مهندسي السياسة الخارجية وخبرائها في التاريخ الحديث). وقد فوجئ الجميع في الولاياتالمتحدة بعدم دعوة كيسنجر بل وبالتنكر الكامل لخبراته من قبل هذه الإدارة الأميركية من الحزب الجمهوري الذي خدمه كيسنجر بكل طاقته. يبدو أن كيسنجر أزعج الرئيس بوش حين عينه رئيساً للجنة أميركية مهمتها التحقيق في أسباب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 واستقال كيسنجر منها. فبعد هذه الاستقالة تقرر إزالة اسم كيسنجر من قائمة المستشارين في وكالة المخابرات المركزية (سي آي إي) وعدم الاستعانة به في تقديم النصائح في السياسة الخارجية، ومن الواضح أن كيسنجر تجاوز عدداً من القواعد والأنظمة المهمة الكبيرة في تعامله مع إدارة بوش، فتاريخ المشورة السياسية أو النصائح السياسية قديم جداً ويمكننا في الحقيقة العثور على أول نصوص مكتوبة تحدثت عن طرق نجاح أي مستشار سياسي في العراق حيث كانت بابل القديمة. حوار بين السيد الملك والعبد فثمة نص بابلي قديم يسمى «حوار بين السيد الملك والعبد» يجري فيه الحديث بين السيد والعبد حين يسأل الأول العبد عن رأيه ببعض التصرفات والأعمال التي ينوي السيد القيام بها. وجاء في النص: السيد يقول لمستشاره: «أرغب بقضاء حياتي في حب امرأة جميلة فما رأيك»؟ العبد المستشار: «نعم بالتأكيد يا سيدي أنت محق فليس هناك أفضل مسرة من حب النساء الجميلات». السيد: «لا أيها العبد (يغير السيد رأيه) لن أرغب بعشق أي امرأة جميلة». العبد المستشار: «نعم بالتأكيد يا سيدي أنت محق لأن النساء مخلوقات محفوفة بالمخاطر وسوف تدمر صحتك وثروتك». ثم ينتقل الملك إلى استشارة أخرى فيقول: \r\n \r\n «أيها المستشار سأشن حرباً فما رأيك؟». \r\n \r\n المستشار: «أنت محق تماماً في هذه الفكرة فالحرب هي العمل المناسب الوحيد للرجل ومن يشن حرباً يجلب لنفسه الشهرة والغنائم» فيعود الملك ويغير رأيه قائلاً: «لا لن أشن حرباً فما رأيك؟» فيجيب المستشار: «نعم يا سيدي هذا هو القرار الصحيح فالحرب عمل شاق يجلب الجراح والموت». ولا شك أن المرء منا يستطيع تناول هذا الحوار من أبعاد ووجهات نظر مختلفة، فقد يرى مؤرخ ما مختص في الفلسفة أن الحوار هنا يشكل مثالاً للجدل السفسطائي حتى قبل أن يظهر السفسطائيون في اليونان القديمة. وقد يرى مؤرخ لعصر ما بعد الحداثة أن هذا النص يبين بشكل واضح أن الحقيقة الموضوعية لا وجود لها وأن نصاً كهذا موجود في حوارات ومحادثات متنوعة. فلو بعث هذا المستشار العبد البابلي في عصرنا الحديث لقال لنا إن طريقته هذه تحمل صفة براغماتية لأن تقديمه المشورة بهذه الطريقة يضمن له أن يلقى معاملة جيدة ويصبح من الشخصيات التي تدعى إلى الحفلات ذات الأطعمة الغنية والخمور الجيدة. وربما هذا ما يفسر عدم دعوة كيسنجر إلى الاجتماع الذي دعت الإدارة إلى حضوره عدداً كبيراً من الشخصيات السياسية الأميركية التي عملت في إدارات سابقة وتعرب عن دعمها وتأييدها لكل ما تقوم به إدارة بوش بشكل عام. والمعروف أن كيسنجر أبدى رأياً ومشورة لا تعتبرهما إدارة بوش صحيحة تجاه الحرب في العراق، ولا تريد وضعها في حساباتها أيضاً. ولكي يفهم المرء موقف كيسنجر من الحرب في العراق لا بد له من استعراض موجز لأهم مشاكل بوش. \r\n \r\n بوش المتجرد من المبادئ الخلقية \r\n \r\n فثمة عدد قليل من الذين يوجهون انتقاداتهم للرئيس بوش وخصوصاً الصحافيين الأميركيين الذين يقولون إن مشكلة بوش الرئيسة تكمن في أنه «كذاب ومتجرد من المبادئ الخلقية». فقد كذّب بنظرهم على الشعب الأميركي وعلى الكونغرس وهو من هذا الجانب مختلف تماماً عن أغلبية الأميركيين الصادقين. لكنني أرى أن هذا الانتقاد لبوش مخطئ لأن بوش لم يقم بأمر مخالف للأغلبية لأن الكذب ليس استثناءً بل هو طريقة في الحياة ويسمى «الإعلان» وهو أساس موجود في النظام الرأسمالي الأميركي. فالكليات تعرض إعلانات عن درجاتها في الدراسات المتنوعة بدءاً من «الفلسفة» إلى «الدراسات النسائية»، وتؤكد للطلاب المتجاوبين بأنهم حين ينفقون آلاف الدولارات والسنوات من أجل الدراسات المختارة فسوف يحصلون على وظائف وأعمال أفضل. وصناعة الأدوية تعرض إعلانات عن الأدوية وتوحي للمرء بأنها ستجلب له السعادة والصحة وتقلل في دعاياتها الحديث عن مضاعفاتها أو آثارها السلبية الجانبية. ولا شك أيضاً أن جمهور المستهلكين يواجهون اقتراحات وتوصيات كثيرة تعرض أمامهم بضائع لا نفع لها غالباً. وهكذا يصبح الكثيرون من الأفراد ممن يمارسون الكذب بدءاً من الرئيس (وهذا ما فعله رئيس أميركي حين نفى وجود علاقات جنسية بينه وبين تلك المرأة المعروفة) وانتهاءً برؤساء الأقسام والإدارات.. فممارسة الكذب أصبحت جزءاً من الحياة ليس في بلاد الحرية ووطن الشجعان فحسب، ولا تظهر المشكلة في عملية ممارسة الكذب بشكل كبير، ولكن فيما هو أخطر وهو عندما يصدق من يمارس الكذب قصصه الكاذبة. فالقادة السوفيات كانوا يصدقون كذبة أن الحزب موحد والشعب موحد من خلفه وأن علاقات «الصداقة» بين شعوب الاتحاد السوفياتي قائمة وحقيقية. وانسجم هؤلاء القادة مع هذه الكذبة بشكل من الأشكال رغم أنهم كانوا يدركون أن هذا غير صحيح تماماً، لكنهم استمروا بحكم البلاد مدة طويلة بالاستناد إلى هذا الكذب. ولعل غورباتشوف كان أول رئيس سوفياتي يؤمن حقاً بما دعى إليه حين قام بشكل منطقي بتحرير السوفيات من قبضة الحزب الشيوعي وأجهزة الأمن السرية فانهار النظام والأمبراطورية الشيوعية. وفي هذا السياق يمكن القول إن بوش ليس ذلك الكاذب جداً بقدر ما يؤمن بصحة ما يعتقد ويعلن عنه، فهو يعتقد أن الاقتصاد الأميركي أكثر اقتصاد فعال وأن «الممارسات غير المنصفة» هي التي تمنع الانتشار الواسع للبضائع والخدمات الأميركية وقدرتها على المنافسة الحاسمة. ويعتقد الرئيس بوش أيضاً أن القوة الأميركية العسكرية لا يمكن تدميرها وتستطيع إلحاق الهزيمة بأي عدو وهو يعتقد أخيراً أن الديموقراطية الأميركية هي أفضل المؤسسات الموجودة وأن جاذبية تمثال الحرية لا يمكن مقاومتها والتي تعتبر أقوى من قنابل وقذائف الجيش الأميركي. وبوش يحمل كل هذه الاعتقادات لأنها اعتقادات جزء كبير من الوسط الانتخابي الذي تشرب هذه الاعتقادات بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان من بين الأسباب الرئيسة التي شجعت بوش على شن الحرب في أفغانستان والعراق واحتلالهما. \r\n \r\n كيسنجر : القدرة العسكرية العظمى وعجزها في حرب العصابات \r\n \r\n وبينما يعتبر بوش الطفل الروحي لهذه الفترة من العظمة الأميركية الجيوسياسية، فإن كيسنجر عاصر تجربة فترة مختلفة تماماً هي التي تشكل رؤيته للحرب الأميركية في العراق. فعدم تقبل كيسنجر لسلوك بوش السياسي لا علاقة له مطلقاً بالصورة التي رسمها الكاتب مايكل مور للرئيس بوش وأهداف سياسته. ولا يشبه موقف كيسنجر موقف زبيغنيو بريجينسكي المستشار السابق لجيمي كارتر الذي لم يحصل على دعوة للاجتماع الذي عقده بوش لأنه من الحزب الديموقراطي. فكيسنجر كرائد للبراغماتية الجيوسياسية لا يقف ضد فكرة استخدام القدرات الإمبريالية من أجل تحقيق مصالح اقتصادية ملموسة وليس من الفرسان المخلصين لتمثال الحرية الأميركي. فهو ممن أقام علاقات ودية مع ليونيد بريجينيف وماو تسي تونغ وهو في الوقت نفسه من ساعد شخصياً في قلب نظام حكم ديموقراطي انتخب الليندي رئيساً له في تشيلي وأحل محله حكم ديكتاتور عسكري يميني مؤيد لواشنطن بقيادة بينوشيه. وبالإضافة إلى هذا، لم يكن نيكسون سيد كيسنجر من حزب بوش الجمهوري نفسه فحسب، بل إنه كان قد أدين أيضاً بمحاولة الاستئثار بالسلطة بطريقة غير شرعية. ويبدو أن الشكوك التي حملها كيسنجر تجاه الحرب الأميركية في العراق لم تقم على عدم اتفاق أخلاقي أو فلسفي مع إدارة بوش أو على الولاء وعدمه لها، بل إن السبب كان بسيطاً وهو أن كيسنجر الذي عمل وزيراً للخارجية في المراحل الأخيرة من الحرب الأميركية في فيتنام أدرك جيداً أن القدرة العسكرية لأي قوة عظمى لن تحسم عسكرياً الحرب ضد حرب العصابات. كما أدرك كيسنجر أن «عرقنة» الحرب الأميركية في العراق ستؤدي في أغلب الاحتمالات إلى الطريق نفسه الذي أدت إليه «فتنمة» الحرب في فيتنام، وأن كسب هذه الحرب من قبل الولاياتالمتحدة سيتطلب منها الاستمرار بالبقاء والتورط في العراق وأفغانستان بعشرات السنين. والحقيقة أن هذا ما حدث في منطقة فيتنام وللحرب الأميركية هناك، فقد بدأت حرب العصابات ضد الاحتلال الياباني في منطقة فيتنام منذ الأربعينات ولم تتوقف هذه الحرب نهائياً في كامل المنطقة (لاوس، كمبوديا) إلا بعد موت بول بوت في أواسط التسعينات في كمبوديا آخر معاقل تلك الحرب أي بعد خمسين سنة. وكان كيسنجر على دراية جيدة بأن الجمهور الأميركي لن يتحمل نزاعاً كهذا في العراق وأفغانستان وأنه إذا ما لجأت واشنطن إلى الانسحاب بسرعة أو بتلقي هزيمة فعلية فإن ذلك سيعتبر كارثة بالنسبة لها، ولذلك ستحتاج الولاياتالمتحدة إلى طريقة مناسبة لتخليص نفسها ببطء من كابوس العراق وأفغانستان. \r\n \r\n خطأ معاداة ايران \r\n \r\n ويعتقد كيسنجر أن الولاياتالمتحدة لن يكون بمقدورها القيام بأي شيء في المنطقة إلا بمساعدة دول آسيوية مجاورة في مقدمتها إيران. والحقيقة أن بعض الديموقراطيين أوضحوا أن الولاياتالمتحدة ستحتاج هذه المساعدة لتخليص نفسها من مشاكل حربها في العراق وإيران تشكل أهم مصدر لهذه المساعدة لأن أي إدارات جديدة أميركية لن تفكر بإبقاء القوات الأميركية لفترات طويلة وغير محددة في العراق، وإيران تتمتع بتأييد أغلبية الشيعة في العراق.. ومع ذلك لم تصغ إدارة بوش إلى ملاحظات كيسنجر وآرائه التي حملها عدد آخر من المستشارين الأميركيين سابقاً لأن بوش اعتبر أن إيران تسعى علناً إلى الحصول على أسلحة نووية دون ترخيص من المجتمع الدولي، ومع ذلك لم تمتنع الولاياتالمتحدة عن إقامة أفضل العلاقات الودية مع الباكستان والهند بل وها هي تزودهما بأسلحة حديثة. وربما تقول إدارة بوش لتبرير سياستها ضد إيران إن إيران دولة ديكتاتورية إرهابية والولاياتالمتحدة المتحضرة لا يمكنها التفاوض معها. ولا شك أن سبباً كهذا غير صحيح لأن واشنطن تعاملت وتفاوضت مع الصين والاتحاد السوفياتي وهما ديكتاتوريتان وأصبح ستالين يدعى «العم جو» في الحرب العالمية الثانية وأصبح من الموثوقين في البيت الأبيض. وفي الحرب الباردة كانت العلاقات الأميركية مع ماو تسي تونغ تتقدم لأنه كان يتبع سياسة مختلفة مع موسكو. وفي النهاية، ربما يقول بوش إن إيران ترعى الإرهاب ولا ترغب بوجود استقرار في العراق وهذا سبب خاطئ آخر ترتكبه إدارة بوش لأن قوى عظمى ومن بينها الولاياتالمتحدة استخدمت إرهابيين ومجموعات مسلحة مثيرة للشكوك في أهدافها ضد أعدائها وخصومها في أكثر من مكان. ولا ننسى أن الولاياتالمتحدة نفسها هي التي خلقت أسامة بن لادن حين استخدمته والمجموعات الإسلامية ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.. وإيران قد تمر بفترة تسمى «فترة ما بعد الثورة» فهذا ما نشهده الآن في روسيا والصين اللتين تستثمران دورهما الجديد من أجل تعزيز مصالحهما القومية، وإيران قد لا يكون لها مصالح طويلة الأمد في دعم المتطرفين الإسلاميين السنّة. ولا ننسى أن إيران كانت على خلاف قوي مع الطالبان حين كانوا يحكمون أفغانستان وكادت تنشب حرب بين الجانبين. ولذلك ما الذي يمنع واشنطن من التحاور والحديث مع إيران على غرار ما فعله كيسنجر حين تفاوض مع الفيتناميين وبدأت الولاياتالمتحدة بعد تلك المفاوضات تخلص نفسها بالتدريج من كابوس فيتنام. وقد تكون هذه العملية مؤلمة للولايات المتحدة لكنها ستكون نهاية أفضل من حصول كارثة لها أو انهيار في العراق وأفغانستان. \r\n \r\n اختلافات الوضع الأميركي تجاه فيتنام وايران \r\n \r\n ومع ذلك، هناك حقاً اختلافات مهمة في الوضع الأميركي تجاه فيتنام والوضع الأميركي تجاه إيران وأحد أوجه الاختلاف لا يعود إلى احتمال وجود سلاح نووي لدى إيران أو عدم تورط الفيتناميين بالإرهاب، بل إن أوجه الخلاف تكمن في أن واشنطن كانت تدرك أنها حين تفاوض الفيتناميين كانت تتفاوض مع الاتحاد السوفياتي الداعم الأول لفيتنام. وفي الحالة الإيرانية هنا ستتحدث الإدارة الأميركية مع إيران وحدها وهو ثقل أقل وزناً مما جرى في مفاوضات فيتنام. ولا شك أن إجراء مفاوضات مباشرة بين واشنطن وطهران وتقاسم المصالح مع إيران سيحققان انفراجاً جيوسياسياً إن لم يؤديا إلى تصحيح في الوضع الجيوسياسي الأميركي في كامل منطقة الخليج والشرق الأوسط. أما الألم الأميركي الناجم عن خطوة كهذه، فللولايات المتحدة قدرة على تجاوزه طالما أن إدارة بوش تسلمت الحكم على قاعدة إعادة تأكيد القيادة الأميركية للعالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن الألم الأشد هو أن إدارة بوش اتخذت قرارات بعدم الإصغاء إلى كيسنجر وغيره من البراغماتيين في القيادة الأميركية السابقة وأنها لم تطلب من كيسنجر الحضور إلى تلك الدعوة. ويبدو أن كل من يحيط بالرئيس بوش وفي إدارته يعيش على طريقة النص البابلي للحوار بين الملك ومستشاره التي يمكن اختصارها ب«ضرورة إعطاء الرئيس المشورة التي يحب سماعها». \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n