ومن المعروف أن الصيغة القائمة بين الشمال الغني والجنوب الفقير هي أن الشمال وحده تتجمع فيه القوة البشرية العاملة ذات الخبرة والمهارة في الأبحاث والتطور وذات القدرة على الابتكار والاختراع في الإنتاج وتقديم الخدمات، في حين أن الجنوب يعاني من نسبة متدنية من التطور ولا يستطيع منافسة الشمال في هذه المجالات. وبسبب هذه القاعدة نجد أن الشمال يبتكر إنتاج بضائع جديدة ويصدرها إلى الجنوب الذي ينتج بضائع قديمة بسبب تخلفه التكنولوجي. لكن عندما تتوفر لكلا المنطقتين التكنولوجيا نفسها، فإن الجنوب الذي تنخفض نسبة أجور العمال فيه سوف يتمكن عندئذ من إنتاج نفس البضاعة والخدمات وبكلفة أقل. فالقوة العاملة في الشمال تتلقى أجوراً تزيد على أجور القوة العاملة في الجنوب لأن العمال في الشمال أكثر خبرة ومهارة ولأن الشمال هو الذي يحتكر صناعة المنتوجات الجديدة. ويبدو أن الإنسان مهما فعل لا يمكن أن يحصر كل شيء في جزء من هذه الكرة الأرضية، خصوصاً وأن المصادر البشرية ستظل في حالة قفز إلى الأمام أينما كانت. وهذه الحقيقة سوف تؤدي إلى تحويل مقابل من الشمال إلى الجنوب، وهناك ثلاثة عوامل ضرورية من أجل تحقيق القفز النوعي في المصادر البشرية هي: أولاً: ضرورة أن يكون في الدولة في الجنوب عدد كاف من السكان لكي تتمكن من الحصول على أعداد كبيرة من العمال الخريجين في ميدان العلوم والتكنولوجيا حتى لو كانت نسبة هذا النوع من العمال المتطورين قليلة في البداية. وبالمقارنة مع الولاياتالمتحدة دولة الشمال الغنية، هناك دولتان تتوفر فيهما نسبة السكان الكبيرة الكافية التي يمكن أن تتطور فيها طبقة عمال متطورة ويزيد تطورها عن الولاياتالمتحدة وهي الصين والهند. ثانياً: توجيه الأبحاث والعلوم المرتبطة بتطوير القدرة على الإنتاجية بالاعتماد على زيادة عدد القوى العاملة العلمية والهندسية التي ستواجه النواقص والتغلب عليها. وهذه الزيادة ستحقق مشاركة واسعة وعريضة لأن الشركة المنتجة التي تخصص على سبيل المثال (2000) مهندس لمشروع ما من المحتمل أن تتوفر فيها القدرة في التفوق على الشركة أو الدولة التي تخصص ألف مهندس لنفس المشروع. ولا شك أيضاً أن الطريقة التي تتبعها دوله ما في تنظيم وتوجيه أبحاثها وتطوير مصادرها وتحدد الصلة بين النشاط البحثي والإنتاج والأعمال هي التي تحكم في النهاية مدى قدرتها على الإنتاج. فالصلة الوثيقة بين الجامعات الأميركية وأشكال الأعمال والصناعة والنظام المتطور جيد للمنافسة وتمويل الأبحاث هي التي توفر للولايات المتحدة فائدة في تحويل ما يتولد عن الأبحاث إلى منتوج تجاري ذي جدوى. ومع ذلك ما زالت مسألة الكمية والأرقام تلعب دوراً مهماً ومسيطراً في تنظيم هذه العملية. \r\n \r\n \r\n فائدة وجود كمية كبيرة من قوة العمل \r\n \r\n ثالثاً: يتمتع الجنوب بقدرة على التنافس في إنتاج بعض القطع غير المستكملة لأغراض تجارية رغم أن القوة العاملة في الجنوب أقل مهارة ولا يتوفر في الجنوب البنية التحتية المماثلة التي تتوفر في الشمال. ومن الممكن للدول ذات الأعداد الكبيرة من السكان أن تجند قوة عاملة أساسية ذات مهارات مختلطة من داخل مخزونها البشري الكبير من العمال والانتقال إلى تطوير بنية تحتية مناسبة لبعض ميادين الإنتاج. وفي ظل هذه الظروف يمكن للدولة كثيرة السكان تطوير قدرة على المنافسة في بعض قطاعات التكنولوجيا المتقدمة وإنتاج ما لا يعتقد الشمال أن الجنوب قادر على إنتاجه. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n الكمية تعلو على النوعية \r\n \r\n إذا ما افترضنا أن دولة نامية لا تملك حقاً سوى نوعية أقل تطوراً من العلماء والمهندسين بالمقارنة مع علماء الشمال، وقد لا تملك بنية تحتية قادرة على توفير مختبرات متطورة للإنتاج، وهذا صحيح. لكن هذه الحقيقة لا تمنع أبداً أن تكون تكلفة ما تنتجه هذه الدولة أقل بكثير من تكلفة نفس المنتوج الخاص بالدولة المتطورة. فأجور العلماء في الجنوب أقل وأجور العمال المنتجين أقل وهو ما يفرض نفسه في سوق التجارة في النهاية. ولا شك أن عدم وجود منفعة لدى الدولة المتطورة في الشمال على منافسة دولة أقل تطوراً في الجنوب في إنتاج بضائع فائقة التكنولوجيا سيلحق الضرر بالدولة المتطورة. وربما تقوم الدولة المتطورة في الشمال بتحويل مصادرها نحو إنتاج بضائع ترتبط بقطاع آخر لا ترغب بإنتاجه الدولة الأقل تطوراً في الجنوب بسبب كلفة الزمن في تعلمه وامتلاك مهاراته.. وإلى جانب هذه العوامل ستظل الأجور ومستويات المعيشة في الدول الغنية في الشمال مرتفعة بسبب ما تكلفه عملية اكتساب الخبرة والعلوم لدى القوة البشرية وقيمة البنية التحتية المرتفعة أيضاً. كما أن صعوبة احتكار عدم الاطلاع على المنتوجات الجديدة أو ما تبتكره الدولة الغنية من منتوجات حديثة ستؤدي إلى تحول هذه المنتوجات إلى منتوجات تتمكن الدول الفقيرة من تقليدها وإنتاجها. وإن حجم أو مقدار الخسارة التي ستلحق بالدولة الغنية سيعتمد بشكل ما على عدد الأفراد الذين يعملون في قطاع إنتاج هذه البضائع المتطورة وبدائلها المقبلة التي يمكن أن تنتجها الدولة الفقيرة في الجنوب. \r\n \r\n \r\n ضرورة اختيار القطاع المناسب \r\n \r\n إذا قررت دولة في الجنوب ممن يتلقى العمال فيها أجوراً منخفضة نسبياً استخدام علمائها ومهندسيها على سبيل المثال من أجل القيام بدور كبير في ارتياد الفضاء، فإن مثل هذا التوجه لن يؤثر كثيراً على اقتصاد الدولة الغنية المتطورة في هذا القطاع حتى لو كان أول رجل يهبط على المريخ صينياً أو هندياً. ومع ذلك، ربما يتوجه الطلاب الذين يهتمون بقطاع الفضاء نحو العمل في دولة من الجنوب لأن كلفة أجور دراسة علوم الفضاء فيها منخفضة، لكن هذا كله لن يحمل منافسة اقتصادية مهمة لدولة مثل الولاياتالمتحدة. أما إذا قامت دولة من الجنوب كثيرة السكان وممن تمتاز قواها العاملة بأجور منخفضة نسبياً بحشد عملائها ومهندسيها للعمل في قطاعات إنتاجية تتطلب حجماً كبيراً من العمال لإنتاج بضائع مهمة للسوق، في هذه الحالة ستلحق أضراراً فادحة بأي دولة غنية متطورة من دول الشمال التي تنتج البضائع نفسها. فالخسائر في ظل فرضية كهذه ستكون أكبر من الخسائر التي قد تحصل لدى الدولة الغنية إذا ما فقدت فائدتها التكنولوجية أمام منافسة دولة غنية متطورة مثلها لأن انخفاض الأجور في دولة مثل الصين أو الهند سيحمل قدرة لا تستطيع الدولة الغنية تجاوزها. فإذا كان السبب الوحيد الذي يجعل العمال في دول الشمال الغنية يتلقون أجوراً أعلى من أجور دول الجنوب هو احتكار الشمال لإنتاج البضائع المبتكرة الحديثة، فإن إنتاج الجنوب لها بأجور أقل سيحول الجنوب إلى المنتج المستفيد منها بدلاً من الشمال ويقلب الحالة رأساً على عقب بين الشمال والجنوب. فالتكنولوجيا هي منجم الذهب وأي دولة تتوفر فيها التكنولوجيا ستتوفر لديها القدرة على التحول إلى دولة أكثر غنى من الأخرى حين تكون الأجور فيها أقل من أجور الدولة الأسبق في التكنولوجيا. لكن هناك سؤالاً لا بد من الإجابة عليه وهو: هل يؤدي عدم وجود الميزة التكنولوجية لدى دولة تمنح أجوراً منخفضة بالضرورة إلى التسبب بالضرر لدولة متطورة تكنولوجياً؟ هناك محللون يرون أن فقدان عامل التفوق التكنولوجي لدى دولة ما في قطاع ما تنافس فيه هذه الدولة بأجورها المنخفضة دولة أخرى كالولاياتالمتحدة يمكن أن يؤدي إلى منفعة المستهلكين الأميركيين. وهذا الأمر يؤدي إلى فائدة للمستهلكين الأميركيين لأن الدولة ذات الأجور المنخفضة ستنتج هذه البضائع بأسعار منخفضة مثلما حدث تماماً في إنتاج أجهزة الكمبيوتر. \r\n \r\n \r\n تراجع في وضع العمال والشركات في أميركا \r\n \r\n إذا كان المستهلكون في الولاياتالمتحدة يستفيدون كثيراً من تحول إنتاج بعض البضائع التكنولوجية إلى دول تقدم لعمالها أجوراً منخفضة، فإن فقدان نسبة من التفوق التكنولوجي الأميركي يمكن أن يشكل كارثة للعمال والشركات في الولاياتالمتحدة. والسؤال الذي يطرح الآن هو: كيف يمكن للتدفق المستمر للمهاجرين من أصحاب الخبرة والمهارات أن يؤثر على الوضع الأميركي؟ فهذا النوع من المهاجرين الخبراء يمكن أن يقدم مساعدة لمحافظة الولاياتالمتحدة على مستواها المتقدم تكنولوجياً في إنتاج ما تستفيد منه البلاد. فمن وجهة نظر العمال الأميركيين يبدو من الأفضل أن تستقبل الولاياتالمتحدة مهاجرين يقومون بتطوير واستخدام أحدث التكنولوجيات الأميركية بدلاً من أن يقوم هؤلاء المهاجرون بتطوير واستخدام التكنولوجيا في الدول الأخرى خارج الولاياتالمتحدة، وخصوصاً حيث تكون أجور عمال تلك الدول منخفضة جداً. ومن المتوقع أن يؤدي نموذج تحقق القفزات في المصادر البشرية إلى حدوث تآكل في التفوق التكنولوجي الأميركي لأن دولاً كثيرة أخرى ستتمكن من بناء ما يوفر لها وجود قوة بشرية من العلماء والمهندسين ستجذب الشركات متعددة الجنسيات إلى توظيفها في نفس بلدانها لكي تتفادى دفع الأجور الباهظة. وبالإضافة إلى ذلك، سوف نشهد انخفاضاً في قيمة الميزة التكنولوجية الأميركية وفي قدرتها على توليد معرفة علمية وهندسية في قطاعات الإنتاج التكنولوجية المرتبطة بتلك المعرفة.. في ظل هذه التوقعات ستتحقق إيجابية واضحة لهذا العالم لأن انتشار التكنولوجيات الحديثة في بلدان أخرى سوف يؤدي إلى زيادة المداخيل في الدول التي يتميز عمالها بالأجور المنخفضة. ولا شك أن الزيادة في عدد العلماء والمهندسين من شأنها تحقيق زيادة في المعارف التكنولوجية والعلمية بل وزيادة في معدل ودرجة التقدم التكنولوجي، وبهذه الطريقة ستتسع حدود القدرة الإنتاجية العالمية. ومن المقدر أن تستفيد الولاياتالمتحدة من التقدم المتصاعد في المعارف الجديدة، ومن إنتاج البضائع الجديدة ومن تطور عمليات إنتاج جديدة تقلص كلفة المنتوجات نتيجة الاختراعات وتطور الإنتاج التي ستتحقق في أماكن أخرى في هذا العالم. لكن هذا لا يعني أن الولاياتالمتحدة لن تواجه مصاعب اقتصادية حين يبدأ تفوقها التكنولوجي بالتآكل والتناقص، فما هو جيد للعالم لن يكون بشكل محتم جيداً للولايات المتحدة. ومع ذلك يمكن القول إن الفئة التي ستواجه أشد الأخطار من خسارة الولاياتالمتحدة لتفوقها التكنولوجي ستكون فئة العمال الذين يتمتعون بمستوى معيشة يعتمدون في تحقيقه على هذا التفوق التكنولوجي. فالتآكل الذي سيصيب قدرة الولاياتالمتحدة في المحافظة على الاحتكار سوف يفرض صعوبات كبيرة أمامها تجاه زيادة أجور العمال وفوائدهم. ويبدو أن أكثر الرابحين من انتشار التكنولوجيا في ظروف كهذه سيكونون من بين عمال الدول النامية والسائرة في طريق التطور والشركات متعددة الجنسيات التي ستستخدمهم وستحقق الشركات الأميركية متعددة الجنسيات أرباحاً مماثلة أيضاً. \r\n \r\n \r\n انتشار التكنولوجيا يضعف الهيمنة الاميركية \r\n \r\n وبالإضافة إلى هذا، سيؤدي انتشار التكنولوجيا والمعرفة في مختلف أنحاء العالم على المدى الطويل إلى تجاوز مؤكد للهيمنة الأميركية في ميادين العلوم والتكنولوجيا. لكن المرحلة الانتقالية التي لا بد من تجاوزها لبلوغ هذه النتيجة ستكون طويلة وصعبة وتستلزم جهوداً تفوق الجهود التي بذلتها اليابان وألمانيا لاستعادة قدراتهما الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا نظرنا إلى الهند الآن، سنجد أنها حققت خلال السنوات الممتدة بين 1990 و2004 نمواً في ناتجها القومي الشامل بمعدل مرتفع هو 5،6% وهو معدل كبير إذا ما قورن بالمعدل الذي تحقق في المجال نفسه في أميركا اللاتينية وهو 2% فقط وفي الفترة الزمنية نفسها. ويتبين من الإحصاءات الهندية أن قطاع الصناعة والخدمات حقق معدلاً زاد عن 7% و8% في النمو في الفترة نفسها. وإذا كان النمو الاقتصادي الذي تحقق في الهند منذ عام 1990 قد وفر الفائدة والأرباح لثلث عدد السكان الهنود، إلا أن النمو المتباطئ جداً في قطاع الزراعة تسبب بتقويض الظروف الاجتماعية لثلثي المواطنين الهنود. ومع ذلك، تشير إحصاءات رسمية ودقيقة هندية نشرت في عام 2000 إلى انخفاض معقول في نسبة الفقر منذ عام 1990 حتى عام 2000 وتقدر مراكز الدراسات المستقلة أن معدلات الفقر في الهند تتراوح ما بين 35% و75% وهي تتجمع في المناطق الريفية بين السكان الذين لا يعيشون إلا من الزراعة وحدها. وعلى المستوى السياسي والانتخابي أصبح الحزب الشيوعي الهندي ثالث أكبر حزب في الهند بسبب شعبيته داخل هذه القطاعات الكبيرة من السكان الفقراء. ويبدو أن الهند ستسير في طريق الاعتماد على طريقين لتحقيق التقدم الصناعي وستمزج بينهما وهما الطريق الذي اتبعته الصين كنظام شيوعي والطريق الذي تتبعه دول آسيوية رأسمالية مثل كوريا الجنوبية وأندونيسيا.. لكنه من الواضح تماماً الآن، أن الهند تسير بوتيرة متسارعة نحو تحقيق تطور مطرد طالما أنها تدرك طبيعة ظروفها وتحدد لنفسها أسلوباً قد لا يتناسب إلا مع ظروفها هي. \r\n \r\n \r\n \r\n