ومع ذلك فإنه عاقد العزم فيما يبدو، على خوض جولة انتخابية جديدة، لفترة ثالثة في منصبه الحالي، في الخامس من مايو المقبل. ومما لا أشك فيه أن ذلك التاريخ، سيضع بلير في قائمة أهم رؤساء الوزراء البريطانيين على الإطلاق، سواء كان ذلك بسبب ما أنجزه داخل بلاده، أم بسبب ما تجرأ عليه خارج الحدود البريطانية. كما لا أشك أيضاً في أن هناك الكثير الذي يمكن أن يتعلمه الحزب الديمقراطي الأميركي من توني بلير. \r\n \r\n وأول ما يمكن تعلمه منه، أنه ليس بالضرورة أن يكون المرء محافظاً كي يكتسب صفة السياسي المقنع المحنك. فعلى امتداد أربع سنوات، ظل بلير ينعت من قبل صحافة بلاده بلقب (Tony Blur) كناية عن الضبابية والافتقار للمبادئ. كما رأت الصحافة في تسميته لحزبه \"حزب العمال الجديد\" مسلكاً يشبه مسلك من يضع أحمر الشفاه على فم خنزير، أي مسلك من يكتفي بالتغييرات الشكلية ويتناسى الجوهر، ويتهرب من اتخاذ القرارات المسؤولة الصعبة. غير أن الواقع يظل مختلفاً جداً. ففي قراره بمشاركة إدارة بوش في حربها على العراق، لم يتحد بلير المشاعر الطاغية المعادية للحرب داخل حزبه فحسب، إنما تحدى بذلك الرأي العام البريطاني المناهض في معظمه للحرب. وكما لاحظ ويل مارشال - رئيس معهد السياسات التقدمية- وهو مؤسسة فكرية موالية للحزب الديمقراطي، فقد \"خاطر بلير مخاطرة كبيرة، بجعل نفسه قرباناً لسياساته عن قناعة ذاتية ومبدأ\". ولنذكر بهذه المناسبة أنه وفي أحلك الظروف والمواقف، وعندما تفاقمت دراما الأزمة العراقية – وما أكثر هذه اللحظات على كل حال- فقد كان في مقدور بوش دائماً التعويل على الدعم الذي يلقاه من حزبه، فضلاً عن الدعم الذي تقدمه له الصحافة المحافظة، والمؤسسات الفكرية الموالية للمحافظين الجدد. \r\n \r\n خلافاً لذلك، كان من قدر بلير أن يخوض معركته وحيداً منفرداً، لافتقاره لأي مجموعة دعم يستند عليها. وفي سياق هذه العزلة، أكاد لا أجزم أن زوجته قد أيدته ووقفت إلى جانبه في حربه على العراق، على رغم معرفتي وإدراكي للمشاعر الزوجية! لكن وعلى رغم كل هذه العزلة، ثبت بلير على مبدئه، ومضى دون هوادة للمشاركة في إسقاط نظام صدام حسين، والتزام جانب الحليف الثابت للولايات المتحدة الأميركية. وقد فعل هذا لعدة أسباب، من بينها وأهمها، قناعته بأن الإسهام في تقدم ونشر الحرية والديمقراطية، وإيقاع الهزيمة بالفاشية –سواء كانت هذه الفاشية ذات صبغة إسلامية أم نازية- يعد أمراً جوهرياً ولا غنى عنه لتحقيق أهداف سياسات بلاده الخارجية الليبرالية. \r\n \r\n أما على الصعيد الداخلي، فقد دفع بلير حزبه – بالمبدئية والثبات ذاتهما- بعيداً لتبني قيم السوق الحرة والعولمة. وتمكن بلير بالفعل، من إعادة ترتيب سياسات حزبه، بحيث يتمكن العمال البريطانيون من حصد أكثر ما يستطيعونه من سياسات الخصخصة والعولمة، إلى جانب التصدي لتأثيراتها السلبية الضارة، بدلاً من الركون إلى الأفكار الاشتراكية المفلسة، أو تبني مواقف اليسار الرجعي، المعادي للعولمة. وقد تمكن هذا الاقتصاد القوي الذي تمكن كل من بلير ووزير ماليته جوردون براون من هندسته، من الإنفاق السخي على مرافق الصحة والتعليم والمواصلات، وحفظ الأمن والنظام. هذا وقد لاحظت صحيفة \"فاينانشيال تايمز\" في عددها الصادر يوم الأربعاء الماضي، أن \"كل هذه الإنجازات، قد تحققت في زمن قياسي، وبوتائر أسرع مما يكون عليه الحال مع المحافظين\". ومضت الصحيفة نفسها إلى القول \"وقد كانت النتيجة عدداً كبيراً من المدارس وعشرات المستشفيات الجديدة والمصانة، وعشرات الآلاف من الموظفين الجدد، فضلاً عن حداثة المعدات والأجهزة التي زودت بها\". \r\n \r\n كما يلاحظ أيضاً أن كل هذه التحسينات – التي لا يزال العمل جارياً فيها- قد تحققت بنسبة ضئيلة جداً من الزيادات الضريبية. وللمرة الأولى خلال الثلاثين عاماً الماضية، يسفر هذا التقدم الاقتصادي وبرامج الرعاية الاجتماعية المرتبطة به، عن انخفاض نسبة البطالة في بريطانيا، إلى أدنى مستوياتها، خلال المدة المذكورة أعلاه. وكان لزيادة نسبة القوة العاملة في السوق، أثرها المباشر على نسبة العائدات الضريبية، الأمر الذي ساعد الحكومة على سداد ما عليها من دين قومي. وعلى حد ملاحظة \"فاينانشيال تايمز\" فقد كان لهذا أثره هو الآخر، على ادخار الأموال على صعيدي الفوائد ومزايا الرعاية الاجتماعية، وهي الأموال نفسها، التي يعاد إنفاقها على المزيد والمزيد من الخدمات. \r\n \r\n بكلمة واحدة، فإنه يمكن القول إن توني بلير قد تمكن من إعادة تعريف الليبرالية البريطانية، بعد أن جعل من هذه الليبرالية، محوراً لاحتضان قيم ومبادئ العولمة، ومعالجة تأثيراتها الجانبية، وبعد أن جعل منها أداة لنشر الحرية والديمقراطية، سواء عبر الدبلوماسية الفاعلة، أم عبر القوة إن دعا الأمر. وفوق ذلك، فقد تمكن بلير من تجريد المحافظين، من أهم مراكز قوتهم ونفوذهم. وعليه، فإن في فوز بلير في بريطانيا، إشارة يجب أن يتعلمها الديمقراطيون هنا في أميركا. \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"نيويورك تايمز\" \r\n