وكي نكون دقيقين يجب التفريق بين الدعوة إلى الحذر حرصا على توفير مقومات الصمود وإفساد المكائد وبين بث خطاب يدعو إلى التسليم والانبطاح الأرعن أمام عدو فر هرولة من جنوبي لبنان ويتخبط بحثا عن الخروج من مستنقعات تحصد أرواح جنوده وأموال مواطنيه في غزة والعراق‚ \r\n \r\n فالمرام الأميركي الصهيوني من كل هذا الضغط على سوريا ليس مكافأة الجنرال عون الذي طلب عونهم بقانون «محاسبة سوريا» على «تحرير لبنان» من ملامحها الوطنية العربية‚ ولا رد «الجميل» لجنبلاط الذي استضاف في «المختارة» ضباطا إسرائيليين واذاقهم مختارا حلاوة القهوة المرة‚ ولآل الجميل الذين حاولوا مرارا عزل لبنان عن محيطه العربي مراهنين على خنجر إسرائيل‚ فكل الوارد ذكرهم أعلاه وأمثالهم ليسوا أكثر من أدوات قد تفيض مستقبلا ملاهي إسرائيل الليلية بها حالهم في ذلك حال مواطنهم أنطوان لحد‚ انما المرام الصهيو أميركي ان ترتعد فرائص سوريا رعبا فتقبل بمساعدة جيش الاحتلال الأميركي على تخليد وجوده في العراق بتثبيت الأخير تحت ثقل الترسانة الأميركية وإخماد كل نفس مقاوم فيه‚ ومن جهة موازية القبول بالشروط الإسرائيلية لتسوية الصراع العربي الصهيوني على حساب الحقوق الفلسطينية خصوصا حق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة في حدود 4 يونيو 1967‚ عاصمتها القدس وخالية من المستوطنات‚ وعلى حساب الحقوق السورية واللبنانية في الماء والهواء والمرتفعات الاستراتيجية‚ وترك المقاومة اللبنانية فريسة انتقام صهيوني منتظر تحت غطاء دولي‚ \r\n \r\n وربما راهنت واشنطن وتل أبيب على ان ترفض دمشق الجانب المتعلق بها من القرار 1559 فيصبح طريق دمشق محط انظار الأطماع الصهيونية‚ \r\n \r\n لكن القيادة السورية التي لم يفاجئها هذا السلوك العدواني الأميركي رغم تعاونها المعروف مع الإدارة الأميركية نفسها في ملف الإرهاب‚ والتي كانت تواجه كل تصعيد أميركي بالدعوة إلى الحوار‚ كانت تتلمس من وراء السياسة الأميركية المتجهمة تجاه دمشق تحريضا صهيونيا لإرباك القيادة السورية في تنفيذ مشروع الرئيس بشار الأسد الوطني الديمقراطي في تحديث وتطوير سوريا مجتمعا ودولة‚ هذا المشروع الطموح الذي ينطلق من كون سوريا غير مديونة بما يعادل قرشا سوريا واحدا للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي‚ أي لمؤسسات الدين العالمية التي من خلالها يملي الغرب الأوروبي الأميركي شروطه على هذه الدولة العربية والعالمثالية أو تلك‚ \r\n \r\n وهذا يعني ان البرامج السورية الإصلاحية بدوافعها ومساراتها وأهدافها هي برامج إصلاح وطني مستقل‚ يدعم ذلك حقيقة ان الدين السوري «لروسيا ودول عربية» يعادل 25% من قيمة الناتج المحلي الاجمالي‚ وخدمة هذا الدين تعادل 15% فقط من قيمة الصادرات السورية‚ وفي الوقت نفسه فان سوريا التي لا تستورد القمح من الخارج تخزن منه كفايتها لثلاث سنوات‚ وتكفي احتياجاتها من العملة الصعبة 29 شهرا من المستوردات‚ أي تتفوق بذلك على النسبة العالمية المقدرة ب 24 شهرا‚ وهي بصدد انفتاح اقتصادي شامل لكن دون اسراع تجنبا للخسائر الاجتماعية‚ ذلك انها اتخذت بالفعل قرارا واضحا بالاندماج في الاقتصاد العالمي وقعت بموجبه اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي‚ كما تزمع تقديم طلب انضمام إلى منظمة التجارة العالمية‚ وفي هذا السياق صدرت قوانين الاستثمار التي بموجبها بلغت قيمة الاستثمارات في سوريا سنة 2004 أربعة مليارات دولار‚ وكانت تركيا المستثمر الاجنبي الأكبر تنافسها حاليا روسيا على هذه المكانة‚ \r\n \r\n ان من يراقب الوضع السوري عن كثب لا تفوته حقيقة ان انشغالها بالصراع العربي الصهيوني ومتطلبات خلق شكل من التوازن العسكري إلى جانب الكوابح البيروقراطية على الأصعدة كافة يقف وراء انحدار مليوني مواطن سوري إلى تحت خط الفقر‚ وهو عدد يعادل 5‚11% من الشعب الذي يحاول مشروع الرئيس بشار الأسد ان يوازن بين التمسك بثوابت قضاياه الوطنية والقومية وفي الوقت نفسه النهوض به اقتصاديا واجتماعيا‚ وهذا ما ترنو إليه الدولة من خلال التخلي عن مؤسسات القطاع العام وسياسة حمايتها دون رفد العاطلين عن العمل ومن هم تحت خط الفقر باعداد جديدة‚ \r\n \r\n ولان خيار سوريا في مواكبة التغيرات الدولية لا يمر بالبنك وصندوق النقد الدوليين اختارت إسرائيل والإدارة الأميركية هذه اللحظة عساها تهز المسيرة السورية التي تتقدم بخطى دقيقة ومحسوبة ولا تقبل الخطأ لتجاوز هذا المنعطف‚ ورأت في هشاشة الوضع اللبناني فرصة انتهزتها مرتكبة جريمة اغتيال الحريري التي ألصقتها فورا بسوريا‚ ثم اتخذت جريمتها ذريعة لإرباك التجربة السورية الواعدة‚ \r\n \r\n المفارقة هنا هذا الغدر الفرنسي الذي يذكرنا حقا بإقدام الشركات الفرنسية التي بنت ملجأ العامرية بتقديم أسرار للبنتاغون الذي ارتكب فيه واحدة من أفظع مجازر الغدر التي كادت فضائح أبوغريب تغطي تفاصيلها‚ ولكن من حظ التجربة السورية أنها لم تستعن بعد إلا بخبراء فرنسيين من أجل الانتقال من «الاقتصاد الاشتراكي» إلى «الاقتصاد الحر»‚ دون خسائر اجتماعية‚ وبمقدور السوريين الاستغناء عن خبراتهم عند الضرورة‚ \r\n \r\n ولأن سوريا أدرى بإمكاناتها العسكرية التي من العبث التفكير بوضعها في مجابهة أقوى ترسانة عسكرية دولية (الأميركية) وأقوى ترسانة عسكرية إقليمية (الإسرائيلية)‚ ولأنه لا تفوتها حقيقة ان الشقيقات العربيات وضعن كل «بيوضهن» في السلال الصهيو أميركية‚ توجه الرئيس بشار الأسد إلى موسكو لعقد اتفاق مصالح استراتيجية مع روسيا‚ على خلفية نظرة سوريا إلى روسيا عبر عنها الرئيس الأسد يوم 25/1/2005 مخاطبا طلبة معهد موسكو للعلاقات الدولية‚ ومبينا أنها تقوم على طموح سوري وعالمثالثي بان تستعيد موسكو دورها السابق في السياسة الدولية‚ يغذي هذا الطموح نظرة روسيا فلاديمير بوتين وسعيها قيادة وشعبا إلى ان تكون مستقلة القرار السياسي الداخلي والخارجي‚ وإدراك موسكو بان لها مصالح طبيعية استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط‚ وان تأثيرات السياسة الصهيو أميركية تمس حدودها الجنوبية‚ ولان التنوع العرقي والديني يجعل روسيا متأثرة أيضا بتداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001 مثلها مثل الدول الشرق أوسطية صار الرهان على عد السياسة الروسية المتوازنة نهجا للسياسة الدولية التي تجنب العالم الفوضى والدمار أمرا ممكنا ورهانا صائبا‚ \r\n \r\n ولقد كان إعلان موسكو الذي وقعه الرئيسان السوري والروسي في 25/1/2005 إعلانا عن نهج جديد في السياسة الدولية يمكن ان تنضم إليه جميع الدول المتضررة من سياسة القطب الواحد الأميركية‚ ولا شك ان المسؤولين السوريين الذين تحدثوا مؤخرا إلى وفد إعلامي أردني عن اعتقادهم ان «روسيا بالضرورة ستستخدم الفيتو ضد أي مشروع أميركي يحاول فرض حصار على سوريا كانوا يستندون إلى إعلان موسكو ببنوده ال 17‚ التي تؤكد على ان نظام القرن الحادي والعشرين يجب ان يقوم على سيادة الشرعية الدولية‚ وعلى التنفيذ الكامل والدقيق وغير الانتقائي لقرارات المنظمة الدولية‚ وعلى تعزيز الاستقرار الدولي بالالتزام الصارم لجميع الدول بقرار مجلس الأمن 1540‚ وعلى جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل النووية والكيماوية والبيولوجية كافة‚ وعلى إدانة الإرهاب وأهمية اتفاق المجتمع الدولي على تعريف محدد له»‚ \r\n \r\n ونص إعلان موسكو على تنسيق جهود روسيا وسوريا الموجهة نحو تحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي 242 و338 و1515 وغيرها من قرارات المجتمع الدولي ذات الصلة وأيضا مبادئ مدريد ومبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة بيروت 2002‚ كما طالب بانسحاب القوات الاجنبية من العراق‚ ونص على ان يطور الجانبان التعاون التقليدي في المجال العسكري الفني بما يلبي المصالح المتبادلة لكلا البلدين والتزاماتهما الدولية‚ \r\n \r\n ان هذا الاعلان وما رافقه من اتفاقات اقتصادية وعسكرية وثقافية إلى جانب اتفاقات مماثلة مع إيران وتركيا وعلاقات متينة مع دول مثل فنزويلا وكوبا وكوريا الشمالية وفيتنام والصين وغيرها من دول العالم‚ إلى جانب تعاط هادئ ومسؤول مع العلاقات التي تقيمها الدول العربية مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل‚ وفي الوقت نفسه الدفاع عن المقاومة وفصائلها في الوجود إلى ان ينتهي احتلال الأراضي العربية واستعادة الحقوق العربية يجعل الموقف السوري مقبولا رسميا وشعبيا‚ عربيا وإقليميا ودوليا‚ وقبل ذلك يجعله محور التفاف الشعب السوري حول قيادته الوطنية في لحظة تاريخية‚ \r\n \r\n إن سوريا لا تريد مساعدة الاحتلال الأميركي على البقاء يوما اضافيا في العراق‚ لكنها مستعدة لمساعدة الولاياتالمتحدة على الخروج من العراق في أسرع وقت‚ أما تطبيق سيناريو غزو العراق على سوريا‚ فهذا أمر تسعى سوريا إلى تفاديه بذكاء وديناميكية وحكمة وتعقل وشجاعة وصرامة في آن واحد‚ وهذه هي سمات سياسة الرئيس بشار الأسد في التعامل مع الملفات الساخنة خاصة‚ أما دفع الأمور إلى الفوضى بعدوان أميركي أو إسرائيلي على سوريا أو إيران (كان حذر بوتين نظيره الأميركي من مغبتهما في لقائهما الأخير) فقد يصب فعلا في خدمة الاستراتيجية الصهيونية لدفع المنطقة إلى الفوضى والتفتيت‚ لكن بالتأكيد لن يزيد القوات الأميركية في العراق والمنطقة إلا غرقا في مستنقعات إضافية ستدفع المجتمع الأميركي إلى كوارث ما زال في مرحلة تذوقها‚ كما أنها ستكثف وتضاعف من العوامل المساعدة على توسع وتعمق ظاهرة الإرهاب ديمغرافيا في المنطقة والعالم خصوصا وان سوريا خلافا لما تشيعه الدوائر الصهيو أميركية هي الدولة الأكثر مقاومة لظاهرة الإرهاب لانها اكتوت ولا تزال بجماره‚ ولانها تدرك انه السلاح الأكثر شيوعا في المناطق ذات التعددية العرقية والدينية والمذهبية‚ \r\n \r\n ولو ان الولاياتالمتحدة صادقة في حربها المزعومة على الإرهاب لعززت من دور سوريا الاقليمي باجبار إسرائيل على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وتسوية الصراع العربي الصهيوني باقامة سلام عادل وشامل يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام‚ واعادت جيشها إلى قواعده في الأراضي الأميركية تاركة العراقيين يسوون أمورهم بأنفسهم‚ فبعد حولين من غزو العراق ما الذي حققته الإدارة الأميركية غير تدمير بناه التحتية وتقتيل شعبه وافساد بهجة الحياة فيه ودفع منطقة الشرق الأوسط إلى المزيد من التوتر والغليان واليأس لولا فسحة الأمل التي تمثلها دمشق قلب العروبة النابض الذي تعود ان يضخ الدم السوري في أكثر من وريد عربي مراهنا دائما على المستقبل‚ \r\n