فالحديث يدور اليوم، كما كان الأمر في العشرينات من القرن الماضي، حول إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية وحول حماية حصول الغرب على النفط وعلى فرض «الديموقراطية» على المنطقة بقوة السلاح. \r\n \r\n فمنذ تسعين عاماً كانت بريطانيا وفرنسا الدولتين الرئيسيتين اللتين تآمرتا لإخضاع المنطقة بحيث تتلاءم مع مصالحهما. أما اليوم فقد حلت محلهما شراكة امبراطورية جديدة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل بغية السيطرة على العرب ومواردهم. \r\n \r\n ولقد منعت أوروبا تقريباً من التدخل في شؤون المنطقة السياسية أو أنها اختارت الوقوف جانباً، وإن كانت بريطانيا تحاول أن تلعب دوراً محلياً ثانوياً بوصفها «كلب» أميركا، كما وصفها بعض الصحف البريطانية والعربية. \r\n \r\n ولعل المثلين الصارخين على «الامبريالية الجديدة» هما بالطبع اجتياح العراق واحتلاله وتدميره والاجتياح الإسرائيلي والاحتلال وتدمير المجتمع الفلسطيني. وقد أخفق العرب حتى الآن منفردين أو مجتمعين في التصدي لأعمال العدوان هذه. \r\n \r\n ويدفع الامبرياليون الجدد ثمناً باهظاً لاعتدادهم وصلافتهم. فالعراق يتحول إلى مقبرة للجيش الأميركي وكذلك للعلاقات العربية - الأميركية. وأما إسرائيل فقد زادها الاحتلال وحشية وحولها إلى دولة عنصرية شبه فاشية واقعة إلى حد بعيد في أيدي المتدينين المتعصبين. ولكن ليس من شأن هذه المشاكل التي أوقع القامعون أنفسهم فيها نتيجة لطموحاتهم الامبراطورية أن تشكل نوعاً من العزاء لضحاياهم العرب. \r\n \r\n البحث عن الأسباب \r\n \r\n نترك للمؤرخين في المستقبل أن يناقشوا أسباب كارثتي العراق وفلسطين في هذا القرن وأسباب عجز العرب عن الدفاع عن أنفسهم أفضل مما فعلوا. فهل هي تكمن في انقسام العالم العربي وفي التزاحم الرخيص في ما بين أنظمته المفتقرة إلى الأمن والتمثيل الفعلي لشعوبهم؟ أم أن السبب الجذري لهشاشة مركزهم هو انهيار الاتحاد السوفياتي قبل 15 عاماً، الذي أدى بدوره إلى انهيار نوع من التوازن في الشؤون الدولية؟ ذلك أن زوال الشيوعية أدى إلى ظهور أميركا كالدولة العظمى الوحيدة المتبقية. وهي في إدراكها لقوتها الساحقة أخذت تهاجم أعداء فعليين أو من صنع الخيال، خصوصاً بعد أن صدمتها وقهرتها هجمات 11 سبتمبر الإرهابية التي لا سابقة لها. كذلك أدى الانهيار السوفياتي، كما يجب ألا ننسى، إلى هجرة أكثر من مليون يهودي روسي إلى إسرائيل، 30 في المئة منهم من خريجي الجامعات، دعموا بقوة إمكانات إسرائيل العلمية والصناعية والعسكرية، وشجعوها على اهمال مشاعر جيرانها ومصالحهم. \r\n \r\n وهنالك سبب آخر للويلات التي حلت بالعرب، وهو وقوع السياسة الخارجية الأميركية في أيدي المنظرين الموالين لإسرائيل أو ما يسمى بالمحافظين الجدد في واشنطن، الذين ضغطوا من أجل الحرب على العراق وشجعوا إسرائيل على المضي في مصادرة الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات فيها غير عابئين بالأثر الكارثي لذلك على ما يسمى بمسيرة السلام. يضاف إلى جميع أسباب الفوضى الحالية نشوء أنواع شتى من الأصولية الدينية المناضلة - المسيحية في أميركا واليهودية في إسرائيل والإسلامية في العالمين العربي والإسلامي - كل منها يسهم بدوره في تغذية الكراهية والعنف والتطرف في العالم. \r\n \r\n تفكير جديد في الجزيرة العربية \r\n \r\n كل هذه العوامل، وأخرى كثيرة غيرها، أدت إلى حدوث تغييرات مهمة في ميزان القوى العربي. فالقاهرة فقدت الكثير من نفوذها الإقليمي بسبب صلحها المنفرد مع إسرائيل واعتمادها على المساعدات الأميركية. أما دمشق فتواجه ضغطاً شديداً من أميركا وإسرائيل، وأما بغداد المحتلة المدمرة فقد أصبحت منطقة حرب. \r\n \r\n لذلك حصل تحول خلال السنوات العشر الأخيرة بعيداً عن مراكز القوى التقليدية في العالم العربي نحو قطب الثروات والنفوذ والحداثة في السعودية والخليج. وخلال الخمس وثلاثين سنة الماضية، أي منذ انسحاب بريطانيا من قواعدها شرقي السويس بين 1967 و1971، أخذ الخليج يتطلع إلى أميركا وينشد حمايتها. وأما اعتماد السعودية على أميركا، فيعود إلى ما قبل تلك الفترة يوم تم اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت في نهاية الحرب العالمية الثانية. \r\n \r\n على أن هذه العلاقات تحولت الآن تحت ضغط الأحداث. ذلك أن الاحتلال الأميركي للعراق والتسامح مع التوسع الإسرائيلي أثارا نقمة شديدة ضد أميركا في المنطقة. وفي الوقت نفسه فإن العلاقات بين أميركا والسعودية التي كانت قائمة على الثقة والمصالح المتبادلة أصيبت بنكسة كبيرة نتيجة الدور الذي لعبه مواطنون سعوديون في هجمات 11 سبتمبر. فكثير من الأميركيين ينظرون الآن بشيء من الريبة إلى السعوديين في حين يعتقد بعض كبار السعوديين أن الاعتماد على أميركا لم يعد له معنى، بل على العكس فإن معظم العرب يشعرون بأنهم بحاجة إلى ما يحميهم من أميركا. فكما علق أحد الديبلوماسيين الأوروبيين «فإن الاعتماد على أميركا من أجل الحماية هي كدعوة الثعلب لحماية قن الدجاج». \r\n \r\n لقد انضمت دول عربية عدة في عامي 1990 و1991 إلى أميركا من أجل طرد العراق من الكويت. وكان الموقف عكس ذلك تماماً بالنسبة لحرب أميركا على العراق التي دانها العالم واعتبرها غير مبررة وغير قانونية. وكان التغيير الجذري في المناخ السياسي بين حربي الخليج الأولى والثانية واضحاً صارخاً. \r\n \r\n وفي خطاب مهم ألقاه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في المنامة بالبحرين يوم 5 الجاري، عالج بعض هذه التطورات ونشر هذا الخطاب في «النشرة الصحافية لدول الخليج» الواسعة النفوذ وتصدر في بريطانيا، وقد وصفته بأنه أحد أهم الخطب في السياسة الدولية منذ سنين لمسؤول عربي بارز. \r\n \r\n وفي هذا الخطاب شكك الأمير في صدقية الغطاء الأمني الغربي ونفعه بالنسبة إلى دول الخليج والذي اتخذ شكل اتفاقات ثنائية بين دول غربية ودول إقليمية. واقترح بدلاً من ذلك جمع العراق وإيران واليمن في شراكة مع دول مجلس التعاون الخليج الستة بغية بناء هيكلية أمنية إقليمية. وقال الأمير إن على دول المجلس نفسها أن تسعى إلى «إقامة جبهة قوية ومتناسقة وموحدة لا تفرقها الخلافات البسيطة أو ما يقع أحياناً من سوء تفاهم عارض». \r\n \r\n ولعل أهم ما جاء في خطابالأمير سعود الفيصل من توصيات جذرية اقتراحه بأن يكون مجلس الأمن، لا أميركا، الضامن الرسمي لتدابير أمن الخليج، إذ قال: «إن الضمانات الدولية لا يمكن أن تقدم من طرف واحد، حتى من طرف الدولة العظمى الوحيدة في العالم. وإنما توفرها إرادة المجتمع الدولي الجماعية من خلال بيان اجماعي لمجلس الأمن يضمن سيادة جميع دول الخليج وسلامة أراضيها ويعد بالعمل بقوة ضد أي تهديدات خارجية». ولا بد لهذه الأفكار الجريئة التي توحي بأن السعودية تعيد النظر في الأسس التقليدية لأمن الخليج من أن تثير بعض الاستياء في واشنطن. \r\n \r\n والواقع أن خطاب الأمير هو المبادرة السياسية المهمة الثانية التي تتخذها السعودية. وأما الأولى فكانت في مشروع الأمير عبدالله الذي عرض فيه السلام على إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها مقابل انسحابها إلى حدود 1967، وهو عرض وافق عليه العالم العربي بأسره في مؤتمر القمة ببيروت عام 2002 ورفضته إسرائيل. \r\n \r\n وإذ يطل عام 2005 فإن ما يبدو واضحاً هو أن على العرب أن يرصوا صفوفهم إذا ما رغبوا في حماية أنفسهم من طموحات الامبرياليين الجدد وعدوانهم. \r\n \r\n \r\n كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.