محالٌ تصديق ذلك. أفادت «ذي غارديان» يوم الأحد أن الأوكرانيين شاركوا في تمويل جماعي لصناعة أول «طائرة بلا طيار يملكها الشعب» بغية مساعدة جيشهم على صد تسلل متمردين يحظون بدعم روسي إلى أقاليم شرقي أوكرانيا على الحدود الروسية. ولفتت الصحيفة في هذا السياق إلى «أن موقع التمويل الجماعي الأوكراني «المشروع الشعبي» أعلن الأسبوع الماضي عن حصوله على هبات كافية لتمويل طائرة بلا طيار». وتابعت «أن المنظمين أملوا بدايةً شراء طائرة إسرائيلية حديثة بلا طيار – مقابل 165 ألف دولار – أو طائرة أميركية أرخص قيمتها 120 ألف دولار. لكنهم تمكنوا في النهاية من بناء الطائرة لقاء 35 ألف دولار ليس إلا. إذ قام مصمم ومعه متطوعون آخرون ببناء هيكل الطائرة، بمساعدة مؤسسة عسكرية أوكرانية تولت تزويد المعدات التكنولوجية ذات الصلة». حسناً أبلوا. فمصير أوكرانيا مهم – تماماً مثل مصير سوريا والعراق، إن لم يكن أهم. وليست المسألة مسألة بحث عن «معتدلين» في أوكرانيا، حيث سبق للملايين أن حاربوا من أجل استيفاء بلادهم لشروط الأسواق الحرة والشعب الحر التي يفرضها «الاتحاد الأوروبي، وصوتوا عليها. وفي تفاصيل متصلة، وقع الرئيس الأوكراني الجديد بيترو بوروشينكو، في بروكسل يوم الجمعة الفائت، اتفاقية تجارية مع «الاتحاد الأوروبي» سيتم بموجبها خفض الرسوم الجمركية على الصادرات الأوكرانية إلى الدول الثماني والعشرين التي تشكل «الاتحاد الأوروبي» مقابل تطبيق أوكرانيا إصلاحات مكافحة الفساد، والشفافية ومراقبة النوعية المصممة للارتقاء بنظامها الاقتصادي إلى مستوى المعايير الغربية. ويُذكر أن سلف بوروشينكو، فيكتور يانوكوفيتش، كان رفض إبرام هذه الاتفاقية بالتحديد في نوفمبر الفائت بتأثير من ضغوط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ما أطلق شرارة ثورة ميدان الاستقلال في كييف، التي انتهت بالإطاحة بيانوكوفيتش وأشعلت فتيل عصيان الانفصاليين التابعين لبوتين شرقي البلاد. ويفسّر ذلك نقل وكالة «انترفاكس» للأنباء، بعد ساعات معدودة من توقيع الاتفاق، تصريحات نائب وزير الخارجية الروسي، غريغوري كاراسين، الذي حذّر وبشدّة من الاتفاق الثنائي بين «الاتحاد الأوروبي» وأوكرانيا، واصفاً عواقبه «بالوخيمة». حقاً؟ فكروا بالأمر. دولةٌ تهدد أخرى لإبرامها اتفاقية تجارية بأمل زيادة دخل شعبها، الذي تخلف إلى أبعد حد عن شعوب الدول المجاورة له، على غرار بولندا، التي انضمت إلى «الاتحاد الأوروبي» بعد انهيار «الاتحاد السوفياتي». أتفهم عدم رغبة روسيا بالتحاق أوكرانيا «بالناتو»، وهو حلف دفاعي لا يزال يرمي إلى احتواء القوة الروسية. وقد عارضت نوسع «الناتو» في نهاية الحرب الباردة، ولن أؤيده الآن. لكن اتفاقية تجارية لا تؤدي حتى إلى عضوية تلقائية في «الاتحاد الأوروبي»؟ أهكذا تحافظ روسيا على قوتها؟ من خلال إبقاء جيرانها في الفقر وحرمانهم من الطاقة؟ سبق وأوضحت في مايو الفائت أنه «رف لبوتين جفن» عند سحب قواته عن الحدود الأوكرانية حيث كانت متجمعة، بعد عقوبات الغرب وتهديداته بفرض المزيد منها – أملاً منه الحؤول دون انتخاب بوروشينكو أولاً وإبرام الاتفاقية مع «الاتحاد الأوروبي» ثانياً. ولكن قد تكون عين بوتين رمشت ليس إلا. صحيحٌ أنه لم يقدم على الغزو، إلا أنه سلّ السيوف من غمدها وبعث الحماسة في صفوف الوكلاء شرقي أوكرانيا لتعزيز الانقسام داخل المناطق الناطقة باللغة الروسية. واليوم، أرسل بوروشينكو – الذي ضاق ذرعاً من أكاذيب بوتين الشبيهة بأكاذيب غوبلز – قواته لاستعادة السيطرة على شرقي أوكرانيا ومعها حق بلاده باختيار مستقبله. هذا، ومن الواضح أن بوتين يخشى مضاعفة العقوبات، التي كانت الولاياتالمتحدة و»الاتحاد الأوروبي» قد فرضتها في التوقيت المناسب. من خلال حرمان الأوكرانيين من حق اختيار مسارهم الاقتصادي والسياسي الخاص، يثبت بوتين مدى حماقته وحنكته. أحمقٌ هو باعتقاده أنه، في عالم المواطنين الحديثي التمكين المترابط هذا، يمكنه الاستمتاع «بدائرة النفوذ» ذاتها التي كانت تملكها روسيا في وسط أوروبا أيام القياصرة. عذراً. فإذا أراد زعيم أن يتمتع بدائرة نفوذ في أيامنا هذه – في عصر «الشعوب النافذة» هذا – فإمّا ينبغي عليه أن يكتسب ذلك النفوذ من خلال تصرفاته أو أن يسلبه بالقوة. وفي أوكرانيا، يعجز بوتين عن التصرف بحسب الخيار الأول ولا يجرؤ – في الوقت الراهن – على الإقدام على الخيار الثاني. فلم يضطر القياصرة يوماً إلى التعامل مع شعوب نافذة تستطيع حشد أموال جماعية لبناء طائرة بلا طيار تخصها. إلا أن بوتين رجل محنك أيضاً. أو كما يقول المحلل الروسي فلاديمير فرولوف في صحيفة «موسكو تايمز»: «قد يعجز الرئيس فلاديمير بوتين عن بلوغ هدفه بفض اتفاق الشراكة بين أوكرانيا و»الاتحاد الأوروبي»، ولكنه حقق في الداخل منفعة من استراتيجيته السياسية لجهة أوكرانيا من خلال إعادة تحديد معالم الحوار الوطني الروسي بالكامل. وكان إنجازه الأساسي في القضاء على كل حوار بناء حول آفاق المستقبل البديلة لروسيا. ومنذ أقل من سنة، كانت الساحة السياسية تتسع لتقديم بدائل ديمقراطية لنظام بوتين». غير أن استيلاء روسيا على القرم وحربها بالوكالة في أوكرانيا، كما أضاف فرولوف، «حوّلا الحوار الوطني من نقاش سليم حول أداء بوتين الرئاسي إلى حديث مسموم حول الحرب وأعداء روسيا. وقد نجحت حملات موسكو الترويجية في تصوير الانتفاضة الشعبية ضد استيلاء حفنة من الفاسدين على مصالح الدولة في أوكرانيا، على أنها «انقلاب فاشي يحظى برعاية أميركية»». وبالتالي، في حال كان بوتين «يقاتل النازيين في أوكرانيا، فإن كل من يعارضه الرأي قد يكون عميلاً نازياً وعدواً لروسيا. الأمر الذي يلغي الفسحة السياسية أمام مجمل الرؤى البديلة الخاصة بروسيا، باستثناء اعتبارها امبراطورية منقحة تكنّ العدائية للغرب». نوع المقال: روسيا سياسة دولية