لن أتحدث عن الزندقة بالمعنى العقديّ الشرعيّ، ذلك المعنى الذي تترتب عليه أحكام وآثار شرعية، فليس هذا مجال الحديث عنها، ولست معنياً بالحكم على أشخاص حكماً شرعياً، وإنما الحديث عن حالة سياسية غير مأمونة، قد استبان بالتجربة أنّ الغدر والختل سبيلها، وأنّها ليست بيئة للتصالح أو التعايش السلميّ وإن أظهرت ذلك، وأنّها لا تبدي الندى إلا لتستمكن من نصل السيف. وقد استعرت مصطلح الزندقة ونقلته من الوسط الشرعي إلى الوسط السياسيّ لدقته في التعبير عن تلك الحالة السياسية البشعة، والعلماء يقصدون بالزنديق المنافق الذي قامت الأدلة الصالحة لمقاضاته بها على نفاقه، والفرق بينه وبين المرتد أنّ المرتدّ لا يخفي ردته وإنما يجاهر بها، والفرق بينه وبين المنافق أنّ المنافق لم تقم أدلة مادية تنهض لمقاضاته، والفرق المقصود هنا إنما هو في الأحكام الدنيوية، ويترتب على ذلك التفريق في الحكم بين هؤلاء الثلاثة؛ فالمرتد يستتاب قبل إقامة الحد عليه فإن تاب يخلى سبيله، والمنافق لا يقام عليه الحد أصلاً ولكن يجاهد بالحجة والجدال ويحتاط المسلمون منه، أما الزنديق فيقام عليه الحدّ دون أن يستتاب، لافتقاد ضمانة عدم العود، وهذا مذهب مالك وبعض أصحاب الشافعيّ، وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة، وأشهر الروايتين عن أحمد، هو القول الراجح الصحيح لقوة أدلته وضعف وتهافت واضطراب ما خالفه، وليس هذا موضع البسط والإسهاب. والزندقة السياسية زندقة في ممارسة السياسة، فيها معنى الردة السياسية بالانقلاب على الإرادة الشعبية، والارتداد عن المبادئ السياسية، وعدم احترام حقوق الشعوب وحرياتها، وفيها معنى النفاق السياسي لكونها - برغم كل ما صنعت - تتظاهر بالعدل والإنصاف وتدخل في أشكال تشبه الأطر السياسية التي تحترمها الأمم وتعلي من شأنها، وتتقمص أدواراً سياسية ليست من منهجها الغشوم، وتنفرد بكونها مدانة بالأدلة الظاهرة رغم نفاقها؛ مما يحيل – في العادة – توفر الضمانات لعدم العود إلى ما كانت عليه. والانقلاب عندما يكون جوهره هو الاستبداد، وديدنه هو الانفراد بالقرار، ومنهجه هو القمع لكل المخالفين، وسبيله إلى بلوغ غايته ليس الدخول في أشكال سياسية استبدادية صريحة، وإنما الدخول في أشكال وصور يقال عنها إنها ديقراطية؛ فهو يمارس النفاق السياسي، فإذا ما قامت الأدلة على هذا النفاق السياسي؛ بما ارتكبه من انقلاب على شرعية صحيحة؛ مهد به وبكثير من الانتهاكات إلى حكم استبداديّ ظالم؛ فقد انتقل من النفاق السايسي إلى الزندقة السياسية . ومن ثمّ فلا توبة له أمام الثورة؛ فضلاً عن أن تقبل منه مصالحة، والثورة لا تعرف هذا التخليط في المواقف، الثورة لا تعرف إلا سبيلاً واحداً واضحاً، تشمّ بفطرتها وتلقائيتها دفء كنفه؛ فتلقي بنفسها وهمومها وأحلامها بين أحضانه، وهو طريق النضال الشريف والصمود العفيف، ويوم أن تكون عاجزة عن مواصلة السير، يسعها أن تغير من طريقتها، ويسعها أن تبطئ السير، ويسعها أن تهدأ لتلتقط أنفاسها، أو تتراجع خطوات لتنحاز إلى فئة تشد أزرها، يسعها كل ذلك وغيره مما وسع كثيراً من الثورات؛ بشرط أن يكون قرارها مبنياً على دراسة صحيحة للواقع، أما أن تتصالح مع عدوها الذي يمارس الزندقة السياسية؛ فهذا ما لا يمكن تصوره من حيث الأصل. وإني لأعجب أشد العجب من البعض عندما يشنف أذنه لتهامس هنا أو حديث هناك حول مصالحة محتملة تبدو ملامحها في الأفق المظلم، وأطرح سؤالاً يفرض نفسه على الجميع: وهل كانت الثورة تقدم كل هذه التضحيات انتظاراً للحظة وصول قائد الانقلاب للحكم لتتصالح معه !! أم إنّ كل هذه الدماء لم تكن سوى قرابين تنثر على جانبيّ الكرسيّ المسلوب، وعرابين لشراء هدنة مع سفاح أفاق مصاص للدماء ؟! لا تصالح .. لا تصالح على دماء بريئة سفكت بغير حق .. ولا التقاء بين الحق الصريح والباطل الصريح إلا إذا التقى الليل والنهار أو ائتلف النور والظلام، ليس هذا قراراً أفرضه، ولا تصوراً أطرحه، وإنما هو طبيعة حالة أقوم فقط بنقلها بأمانة شديدة، ومن لم يستطع أن يفهمها من هذا المدخل، فليكن مدخله: " كيف أعاودك وهذا أثر فأسك ؟ "