في يوم 18 يونيو 1953، صدر في مصر إعلان دستوري، تضمن مقدمة طويلة عن تاريخ أسرة محمد علي، وفسادها وعمالتها، وانتهت بأنه "آن للبلاد أن تتحرر من كل أثر من آثار العبودية التي فرضت عليها، ونتيجة لهذه الأوضاع، تعلن اليوم باسم الشعب: أولاً: إلغاء النظام الملكي، وحكم أسرة محمد علي، مع إلغاء الألقاب من أفراد هذه الأسرة. ثانياً: إعلان الجمهورية، ويتولى الرئيس اللواء أركان حرب، محمد نجيب، قائد الثورة، رئاسة الجمهورية، مع الاحتفاظ بسلطته الحالية في ظل الدستور المؤقت. ثالثاً: يستمر هذا النظام طوال فترة الانتقال، ويكون للشعب الكلمة الأخيرة في تحديد نوع الجمهورية، واختيار شخص الرئيس عند إقرار الدستور الجديد. صدر ذلك الإعلان الدستوري، عن مجلس قيادة حركة 23 يوليو 1952، موقعاً من رئيس مجلس القيادة محمد نجيب، بصفته قائد ثورة الجيش، و11 عضواً، أولهم البكباشي أركان حرب، جمال عبد الناصر، وآخرهم الصاغ خالد محيي الدين. وأنهى حكم أسرة محمد علي مصر، والذي استمر148 عاماً (1805- 1953)، وكانت مصر في آخر 30 عاماً منها ملكية دستورية، يحكمها دستور 1923، والذي أكد مجلس القيادة نفسه، في البيان الأول للحركة المباركة، في 23 يوليو الحفاظ عليه! كانت تلك بداية العصر الجمهوري في مصر، من دون أن يكون لتلك الجمهورية أي ملامح واضحة، ومن دون عودة إلى الشعب، وحتى التمهيد للقرار! والمثير أن أول قرار جمهوري صدر في مصر كان: تعيين الصاغ أركان حرب، عبد الحكيم عامر، قائداً عاماً للقوات المسلحة، مع منحه رتبة لواء، وذلك في يوم إعلان الجمهورية نفسه، وتوالت الأحداث بسرعة، فلم تمض ثمانية أشهر، حتى كان عبد الناصر، ومعه أعضاء مجلس القيادة، قد أحكم سيطرته على كل شؤون البلاد، بعد تهميش محمد نجيب، الذي لم يجد أمامه مفراً من إرسال استقالته إلى مجلس قيادة الثورة في 23 فبراير1954، وفي 25 فبراير، أصدر المجلس قراراً بقبول استقالة نجيب، وتعيين جمال عبد الناصر، رئيساً لمجلس الوزراء، وبقاء منصب رئيس الجمهورية شاغراً، لتحدث الأزمة الكبرى، المعروفة باسم أزمة مارس، في اجتماع ضباط الفرسان يوم 26 فبراير، ومطالبتهم بعودة نجيب، والديموقراطية. وفي اليوم التالي، أعلن عبد الناصر قرارات جديدة، تتضمن حل مجلس قيادة الثورة، وعودة نجيب، وتعيين خالد محى الدين، رئيساً لمجلس الوزراء، واستقالة عبد الحكيم عامر، وأعقبت تلك القرارات اضطرابات شديدة في الجيش، طالبت بالتراجع عنها، وتظاهرات جماهيرية طالبت بعودة نجيب، فصدر مساء اليوم نفسه، إعلان عودة الرجل رئيساً لجمهورية برلمانية "أي من دون سلطات، على الرغم من عدم وجود برلمان وحكومة منتخبة". "كان مثيراً أن جماهير ميدان التحرير التي رفضت تفويض السلطة إلى نائب الرئيس بهيئته المدنية، باعتباره جزءاً من نظام مبارك، قبلت وهللت واحتفلت، وكأنها حققت أعظم انتصاراتها، لأن مبارك سلم السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، برئاسة وزير دفاعه عشرين عاماً" على أي حال، انتهت الأزمة في مارس، بتعيين عبد الناصر، رئيساً لمجلس الوزراء ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وهدأت الأمور لتنشغل مصر بمفاوضات الجلاء مع بريطانيا، والتي رأسها عبد الناصر، بصفته رئيساً لمجلس الوزراء "في جمهورية برلمانية"، وتم توقيعها في 19 أكتوبر 1954، ولم يمض شهر، وفي زخم الاحتفالات باتفاقية الجلاء، باعتبارها إنجازاً وطنياً كبيراً لعبد الناصر، صدر يوم 14 نوفمبر 1954 قرار مجلس قيادة الثورة بإقالة محمد نجيب، "وتحديد إقامته"، وبقاء منصب رئيس الجمهورية شاغراً، مع تولي جمال عبد الناصر اختصاصاته، إلى حين إقرار الدستور الجديد واختيار الرئيس، وهو ما جرى في استفتاء 23 يونيو 1956، حيث تمت الموافقة على دستور 1956، والاستفتاء على عبد الناصر رئيساً. تلك كانت البداية الحقيقية لدولة عبد الناصر، التي حملت اسم جمهورية. ولمزيد من التمييز، وأيضاً النفاق، ابتكر مثقفو السلطة اسم "مصر عبد الناصر"، فطغت شخصية الزعيم على شخصية الوطن الذي أصبح الوطن يُنسب لاسمه، وليس العكس! وأصبح الباحث في العلوم السياسية ونظم الحكم أمام مشكلة حقيقية، في توصيف نظام الحكم الذي شرع عبد الناصر في تأسيسه، وأكمل خلفاؤه تكريسه، فلا هو جمهوري برلماني، ولا رئاسي، ولا مختلط. المؤكد بأنه نظام جمهوري افتراضي، وأيضاً وراثي، ليس بمعنى أن يؤول الحكم إلى وريث شرعي، ولكن، إلى وريث يختاره الرئيس. وبدأت مسيرة تلك الجمهورية الافتراضية بأن اختار مجلس قيادة حركة الضباط المباركة اللواء محمد نجيب، أول رئيس، ثم قرر عزله، ثم قدم البكباشي جمال عبد الناصر رئيس المجلس العسكري الذي أصبح اسمه مجلس قيادة الثورة، وأيضاً رئيس مجلس الوزراء، ليشغل المنصب في استفتاء شعبي. بعدها، اختار عبد الناصر، في أيامه الأخيرة، أنور السادات نائباً له، ليكون الوريث لمنصب الرئيس في استفتاء بالطبع. ثم اختار السادات حسني مبارك نائبا له وريثا لمنصب الرئيس. ولأن مبارك امتد به العمر، وطال شغله المنصب، لم يشأ أن يختار وريثاً بقواعد التوريث نفسها التي وضعها مؤسس النظام عبد الناصر، وجاءت رياح 25 يناير، قبل أن يستكمل ترتيباته لنظام التوريث الجديد الذي سعى إليه، أي توريث وريث شرعي، وحاول العودة إلى السياق الأصلي، باختيار وريث من أركان النظام، بتعيين عمر سليمان، نائباً للرئيس، ثم محاولة تفويضه سلطات الرئيس للفترة التي كانت متبقية في رئاسته (حوالي ستة أشهر)، لكن الوقت كان قد فات على مثل هذا الإجراء الذي رفضته جماهير يناير المحتشدة في ميدان التحرير في يوم 10 فبراير 2011، وطالبت برحيل مبارك ونائبه. وللأسف، لم تقدم الجماهير بديلاً واضحاً لليوم التالي لرحيلهما، وهنا، قرر مبارك أمراً آخر، هو أن يعيد أمر الجمهورية الافتراضية التي أقامها مجلس القيادة، أو المجلس العسكري المكون من 12 ضابط في يونيو 1953، إلى المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي، القائد العام، ويضم هيئة قيادة القوات المسلحة، ويحمل اسم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليقرر ما يراه بشأنها، وذلك في 11 فبراير 2011. كان مثيراً أن جماهير ميدان التحرير التي رفضت، في اليوم السابق، تفويض السلطة إلى نائب الرئيس بهيئته المدنية، باعتباره جزءاً من نظام مبارك، قبلت وهللت واحتفلت، وكأنها حققت أعظم انتصاراتها، لأن مبارك سلم السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، برئاسة وزير دفاعه عشرين عاماً، والذي كان يضم هيئة القيادة التي اختارها بعناية منذ سنوات، وكأنه لا علاقة لذلك المجلس بمبارك ونظامه، وكأنه مجلس ثوري شكله الثوار في الميدان. منذ ذلك التاريخ، جرت في نهر الأحداث مياه كثيرة، وأريقت في ميادين مصر، وعلى طرقاتها، دماء طاهرة كثيرة، حتى وصلت مصر إلى المشهد الراهن، حيث لم يجد المجلس، أقصد مجلس القيادة، مع اختلاف اسمه الذي تطور من الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، إلى مجلس القيادة للحركة المباركة، إلى مجلس قيادة الثورة، ثم احتجب سنوات طويلة، وتوارى دوره في ظل رئاسة عبد الناصر والسادات ومبارك، ثم استدعاه مبارك لإنقاذ الجمهورية الافتراضية، باسمه الجديد، المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لم يجد المجلس أمامه سوى إعادة إنتاج المشهد القديم، بعد استخدام التقنيات الحديثة، حيث يجتمع ويتخذ قراره بتقديم رئيس جديد لجمهوريتهم الافتراضية التي تم إعلانها في 18 يونيو/حزيران 1953، ولكن، طبقا لقواعد جديدة للعبة، حيث يتولى الرئيس المنصب في عملية انتخابية، وفي ظل دستور مختلف وضوابط جديدة، تجعله جزءاً من السلطة، وليس صاحب كل السلطة التي ستبقى، هذه المرة، في يد المجلس العسكري، مجلس القيادة الذي أصبح اسمه المجلس الأعلى. رابط المقال: http://goo.gl/j7nz91