هانوي، فيتنام أظنني سأتنقّل كثيراً بين كييف وهانوي في الأيام المقبلة. فحين يزور المرء مكانين فيهما هذا القدر الكبير من الاختلاف ظاهرياً، يكتشف التوجهات الكبرى السائدة، ومن أهم التوجّهات التي رصدتها بروز «شعوب الميادين». في العام 2004، كتب الاختصاصي في العلوم السياسية في جامعة هارفارد، صامويل هنتنغتون، عن ظهور عالميّ ل«طبقة خارقة» من «رجال دافوس» - بالإشارة إلى المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يُعقَد في مدينة دافوس، وهم نخبة أشخاص متعددي الجنسيات وكثيري التنقّل بين البلدان، تمّ انتقاؤهم من شركات تُعنى بالتكنولوجيا العالية، والتمويل، إلى جانب المجموعات المتعددة الجنسيات, والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية. وقلّما يحتاج رجال دافوس إلى «الولاء القومي» وهم يملكون فيما بينهم قواسم مشتركة أكثر من تلك التي يملكونها مع مواطني دولهم، على حدّ تعبير هنتنغتون. كما أنهم يملكون المهارات اللازمة للإفادة بطريقة غير متكافئة من العولمة الحديثة العهد للأسواق وتكنولوجيا المعلومات. بعد مرور عقد من الزمن، ومنح ثورة تكنولوجيا المعلومات والعولمة طابعاً ديمقراطياً ونشرها، انتقلنا من عالم تستخدم فيه النخب الحواسيب النقالة، إلى آخر يستعمل فيه الجميع الهواتف الذكية، ومن مرحلة تكوّن فيها قلّة من المحظوظين في دافوس شبكة معارف، إلى أخرى يتاح فيها موقع «فيسبوك» للجميع، ومن عالم لا تُسمَع فيه إلا آراء الأثرياء في أمكنة السلطة إلى آخر يمكن للجميع فيه التحدّث مع زعمائهم على موقع «تويتر» - إذ يبدو أنّ قوة سياسية عالمية جديدة بدأت تولد وهي أكبر وأكثر أهمية من رجال دافوس. وقد اخترتُ أن أطلق عليها اسم شعوب الميادين. تتألف هذه الشعوب من شباب يافعين يتطلعون إلى امتلاك مستوى معيشة أعلى وحرية أكبر ويبحثون إما عن الإصلاح أو الثورة (رهناً بحكومتهم الحاليّة) كما أنهم يجتمعون مع بعضهم البعض إما من خلال التوافد إلى الساحات أو عبر استخدام الساحات الافتراضية، أو الجمع بين الاثنين، بدلاً من أن يتّفقوا على برنامج مشترك، ويملكون قاسماً مشتركاً واحداً هو رغبتهم في رحيل مجتمعاتهم. لقد رأينا هذه الشعوب في الميادين في تونس، والقاهرة، واسطنبول، ونيودلهي، ودمشق، وطرابلس، وبيروت، وصنعاء، وطهران، وموسكو، وريو، وتل أبيب، وكييف، فضلاً عن الساحات الافتراضية في المملكة العربية السعودية، والصين، وفيتنام. وتحظى هذه الدول الثلاث الأخيرة بعدد هائل من مستخدمي مواقع «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، أو المواقع المثيلة لها في الصين، والتي تشكل ساحة افتراضية تسمح للناس بالتواصل والترويج للتغيير وتحدّي السلطة. ويملك المدوّن الأشهر في فيتنام، نغويين كوانغ لاب، عددا من المتابعين يتخطى ذلك الذي تحظى به أي صحيفة حكومية في البلاد. وفي المملكة العربية السعودية، يعدّ أشهر هاشتاغ على موقع «تويتر» هو ذاك الذي يفيد: «لو التقيتُ الملك لأخبرته ...». ويبدو أنّ شعوب الميادين تزداد وتكتسب نفوذاً. وأخبرني نغويين مان هانغ، الذي يدير مجموعة الاتصالات الفيتنامية «فييتيل» قائلاً، «يكمن هدفنا في أن يحظى كلّ فيتنامي بهاتف ذكي في غضون السنوات الثلاث القادمة. ونقوم اليوم بإنتاج هاتف ذكي يبلغ ثمنه أقل من 40 دولاراً. ونحن نسعى لبيعه مقابل 35 دولارا. كما يجدر بالأشخاص الذين يريدون الحصول على اشتراك إنترنت على حاسوبهم دفع دولارين شهرياً و2.50 دولار للأشخاص الذين يريدون الاشتراك بالإنترنت مع خدمة الصوت على هاتفهم الذكي. وبما أنّ وسائل الإعلام الفيتنامية تخضع لرقابة مشدّدة، ليس مستغرباً أن يكون 22 مليون فيتنامي من أصل 90 مليوناً مشتركين على موقع «فيسبوك». ومنذ سنتين، لم يكن عددهم يتعدّى 8 ملايين، كما يدرس نحو مائة ألف طالب فيتنامي في الخارج، مع العلم بأنّ هذا العدد كان أقل بواقع عشر مرات منذ عقد من الزمن. وبالتالي، جميع من سبق هم شعوب الميادين. والأكيد هو أن شعوب الميادين يمثّلون سياسات متنوّعة، بما يشمل «الإخوان المسلمين» في مصر، والقوميين المتطرّفين في مدينة كييف. إلا أنّ التوجّه الطاغي في أوساط هذه الشعوب هو التالي: «نملك الأدوات اللازمة التي تخوّلنا معرفة كيف يعيش الآخرون، بما يشمل الفرص المتوافرة في الخارج، والزعماء الفاسدين في الداخل. ولن نقبل بأن نعيش دائماً ضمن إطار لا يساعدنا على تحقيق إمكاناتنا الكاملة، كما أننا نملك الأدوات اللازمة للتعاون وللتحرك من أجل تغيير هذا الواقع». وأشار خبير في شؤون السياسة الخارجية الفيتنامية إلى أنّ شعوب الميادين «يطالبون بطريقة أو بأخرى بإرساء عقد اجتماعي جديد» مع الأشخاص السابقين الذين هيمنوا على السياسة. «يريد الناس أن يتمّ سماع صوتهم في كل نقاش مهم، ناهيك عن بناء مدارس وطرقات وحكم قانون أفضل. كما أنهم سارعوا إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين قائلين: لماذا باستطاعة الشعب التايواني التظاهر ونحن لا؟». يريد شعوب الميادين في أوكرانيا التعاون مع الاتحاد الأوروبي، ليس لأنهم يظنون بأنه مفتاح الازدهار بل لأنهم يعتقدون أنّ القوانين، والمعايير الشرعية، ومتطلّبات الشفافية الأوروبية، ستفرض التغيرات التي يريدونها في الداخل، والتي لا يمكن أن تحصل من القمّة أو من القاعدة. ويرغب الإصلاحيون الفيتناميون في الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ للأسباب نفسها. وعلى خلاف رجال دافوس، تريد شعوب الميادين استغلال الاقتصاد العالمي لإصلاح دولهم، وليس لتخطيها. ألقيتُ خطاباً عن العولمة في الجامعة الوطنية في هانوي. وبعد ذلك، دار حديث بيني وبين امرأة شابة تدعى آن نغويين (19 عاماً)، وهي طالبة طرحت عدداً من الأسئلة الصائبة. وطغت على حديثها جمل متداولة في الميادين على غرار «أشعر بالنفوذ ... أظن أنّه يمكن تغيير فيتنام .. أرجو أن تخبر العالم عن قضية الاختلاس التي تمّ اكتشافها في شركة شحن تملكها الدولة .. من قبل، كان الناس يلزمون الصمت. إلا أنّ الحقيقة برزت وحكموا على الزعماء بالإعدام.. لقد فاجأ ذلك الناس..الحكومة تحمي كل زعيم. نحصل على مصادر معلومات عدّة من العالم تساهم في فتح أعيننا». وأضافت أنها تملك فرصة أكبر من أهلها لتحقيق إمكاناتها «لكن ليس بالقدر الذي أحلم به». تنحّوا جانباً يا رجال دافوس، فشعوب الميادين قادمة. نوع المقال: سياسة دولية