(علي عبد الرازق: أول شيخ أزهري علماني !) دور المال السياسي وتحدي النخبة العلمانية للأزهر لعلها كانت المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث التي نرى فيها المال السياسي يلعب دوره في العلن، حيث قامت بعض "الجهات" بطباعة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" وتوزيعه بالمجان في العديد من الأقطار الإسلامية. كانت خطوة لتكوين رأي عام يرهب أي معارضة إسلامية لذلك الانحراف الفكري، وشاركت بعض الصحف الأوروبية في الحملة المنظمة تحت لواء الدفاع عن التعبير وحرية الرأي، في الوقت الذي صمتت فيه ولم تدافع عن حرية الإنسان الخاضع للاستعمار الأوروبي في مشارق الأرض ومغاربها آنذاك. ولقد تفاعل بعض الكتاب العرب في هذه الأزمة، وفزع بعضهم من أن تخرج من مصر – بلد الأزهر – هذه الدعوى العلمانية السافرة. كتب شكيب أرسلان (الكاتب والأديب اللبناني 1869 - 1946)، في مجلة (كوكب الشرق) مقالا بعنوان " أيهزأ.. أم أنا لا أفهم العربية؟"، يرد فيها على بعض ما كتبه الشيخ علي عبد الرازق فقال: "قرأت في جريدة (السياسة) مقال الشيخ علي عبد الرازق، وأعدت النظر فيه كرّتين، فلم أفهم منه إلا أنه يهزأ بالدين، ويذم في معرض المدح، ويشير من طرفٍ خفيٍ إلى أن القرآن حمل الناس على الضرر، بل على المحال !". العلمانيون ينقلبون على الحريات وسيادة القانون لقد ثارت ثائرة النخبة المثقفة وراحت تتحدى قرار الأزهر بطرد علي عبد الرازق من زمرة العلماء، وتمتنع عن تنفيذه!. لقد استبقت النخبة العلمانية حكم هيئة كبار العلماء بشن حملة عاتية في جريدة السياسة تتوعد فيها الأزهر وعلماءه إن هم أقدموا على إجراءات قوية ضد علي عبد الرازق، ووصل الأمر إلى وعد عبد العزيز فهمي باشا وزير الحقانية (العدل) علي عبد الرازق ببقائه في منصبه بالقضاء الشرعي بالرغم من أنوف علماء الأزهر ومهما كان قرار الأزهر (والعجيب أن كتاب أصول الحكم ينكر كونه منصبًا شرعيًّا بالتبع لإنكار كون منصب الخلافة دينيًّا، أي: مقيدًا بأحكام الدين). لم يحفل إسماعيل صدقي باشا وزير الداخلية بقرار هيئة كبار العلماء الذي بلغته إياه، ولم يُجب إلى ما طلبته منه من مصادرة الكتاب. كان تنفيذ هذا الحكم من الجهة العامة منوطا في القانون برئيس الوزراء، ومقتضى التنفيذ طرد الشيخ علي عبد الرازق من منصب القضاء الشرعي التابع لوزارة الحقانية، ورئيس الوزراة كان آنذاك يقضي إجازته في أوروبا، ونائبه يحيى باشا إبراهيم وزير المالية هو الذي بلغ وزير الحقانية الحكم مع توقيعه عليه بالتنفيذ، وكان الواجب والمفترض على وزير الحقانية إخراج الشيخ علي عبد الرازق بمقتضاه من القضاء من غير تريث، ولكنه لم يفعل، بل أحاله على لجنة قسم القضايا في الوزارة مبينًا لها ما عنده من الإشكال في تنفيذه لترى رأيها فيه. ونشرت جريدة السياسة على لسان وزير الحقانية بعد الديباجة ما نصه: (وحيث إننا نتشكك كثيرًا (أولاً) : فيما إذا كان نص الفقرة الأولى من المادة 101 من قانون الأزهر نمرة 10 سنة 1911 يقصر الموضوع الذي تختص هيئة كبار العلماء بالنظر فيه على الأفعال الشائنة التي تمس كرامة العالم: كالفسق وشرب الخمر، والميسر، والرقص، وما أشبه ذلك مما يتعلق بالسلوك الشخصي، أم هو يتعدى ذلك إلى الخطأ في الرأي في الأبحاث العلمية والدينية، من مثل ما نسب للشيخ علي عبد الرازق، ووقعت المحاكمة فيه. (ثانيًا) : على فرض أن اختصاص تلك الهيئة شامل - بمقتضى النص - لجريمة الفعل الشائن، الماس بكرامة العالم، ولجريمة الرأي معًا، فهل هذا النص مستمر النفاذ للآن فيما يتعلق بجريمة الرأي ولا تأثير لأحكام المواد 12 و14 و167 من الدستور فيها؟ (ثالثًا) : إن كان نص الفقرة المذكورة عامًّا يشمل الجريمتين، وكان لا تأثير لشيء من أحكام الدستور فيه، وكان الحكم الصادر من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء صحيحًا، فهل الفقرة الأخيرة من المادة 101 المذكورة - وهي المنصوص فيها على العقوبات التبعية - هي أيضًا واجبة التنفيذ لم ينسخها شيء من أحكام مواد الدستور المذكورة أو غيرها من أحكامه). (لذلك نرسل لجنابكم أوراق هذا الموضوع رجاء عرضها على لجنة قضايا الحكومة مجتمعة لدراسته وموافاتنا برأيها فيه، والرجاء عند البحث ملاحظة سلطة شيخ الجامع الأزهر المبينة بالمادة الرابعة من القانون المذكور، فإنها بالنسبة للعلماء خاصة بالإشراف على سيرتهم الشخصية، وكأنه يظهر لنا أن الفقرة الأولى من المادة 101 المذكورة هي الوازع في هذا الصدد، فقد يجوز أن يفسرها ذلك على ما يظهر). .................. بولكلي في 5 سبتمبر سنة 1925 كان هذا الاستشكال القانوني من عبد العزيز باشا فهمي مستنكرًا من جماهير الناس وعلماء المسلمين، إذ كان من العجيب أن يشكك ويستشكل وزير مسلم في حكم صدر من هيئة كبار علماء الإسلام في موضوع متعلق بدين الإسلام، ثم تكون اللجنة القضائية أكثر أعضائها غير مسلمين. وكان أعجب من ذلك أن "يشك كثيرا" وزير مسلم في كون ما فهمته هيئة كبار العلماء من كون تلك الآراء مشتملة على الطعن في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام، وإهانة للمسلمين وللإسلام؛ أي: ردة: وخروجًا من الملة - ، بل ويرى أن ما فعله علي عبد الرازق لا تنطبق عليه قوانين الأزهر التي تحصر إجراءات التأديب في الآراء التي تمس كرامة العالم المسلم: كالشرب أو اللعب أو الرقص!. إن أي فرد من عوام المسلمين ليدرك أن إهانة الإسلام والمسلمين من عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن، والقول بجعل حكومتهم لا علاقة لها بالإسلام، وأن جهادهم وجهاد نبيهم عليه الصلاة والسلام لا يكون إلا للملك والسلطة، ولا علاقة له بالإسلام، يدرك أن ذلك كله أعظم وأفحش من الشرب والرقص واللعب. ثم أخذت الأزمة تتصاعد ..