يسعدني أنني قد أتيحت لي الفرصة للقيام بدور، وإن كان بسيطا للغاية، في حياة الأديب العربي الكبير الطيب صالح. وكان قد تصادف أنني شرعت في إصدار دورية أدبية باللغة العربية، وكنت دوما أبحث عن مواد مناسبة لها، وقد حددت لنفسي معايير رفيعة لاختيار مثل هذه المادة، وكنت دوما أحس بقدر معين من الاكتئاب عندما أجد أن هذه المعايير في اختيار المادة التي تشق طريقها للنشر، تتعذر تلبيتها. وذات يوم، تلقيت اتصالا هاتفيا غير متوقع من سوداني انضم حديثا إلى فريق العاملين في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية. وأحسب أن الحقيقة المتمثلة في أنني أمضيت جانبا من طفولتي المبكرة في السودان، قد منحتني قدرا من الشعور بالرضى حيال أن المديرين الإنجليز الذين يشرفون على هيئة الإذاعة البريطانية قد وجدوا، أخيرا، أن من المناسب توظيف سوداني هناك. ورغم أنه كان قد تم تقديمي إلى الموظف الجديد، الذي قيل له إنني رغم كوني إنجليزيا إلا أنني أمضيت صدر عمري في السودان، ولم يبد أن هذا قد أثر فيه كثيرا. ثم جاء اتصاله الهاتفي، حيث أبلغني باسمه وأوضح لي أنه قد التحق مؤخرا بفريق العاملين في هيئة الإذاعة البريطانية، وأنه قد تم تقديم أحدنا للآخر. بادرت إلى الإعراب عن سعادتي بأن شخصا من السودان قد التحق بفريق العاملين هذا، وذكرت مجددا أني أمضيت صدر طفولتي في السودان. فاكتفى بالقول: نعم، لقد سمعت بهذا. وقال بعدئذ إنه قد سمع أنني أتولى مسؤولية دورية تصدر بالعربية، فهل يمكنه أن يبعث لي بقصة كان قد كتبها للنظر في إمكانية نشرها، وأوضح لي أنه حتى الآن لم ينشر أي من كتاباته. وهكذا أصبحت القصة التي تحمل عنوان "حفنة من الرطب"، من تأليف الطيب صالح، القصة الوحيدة التي نشرت في العدد التالي من مجلة "أصوات". وكنت قد صممت على ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، وأسعدني أن تقبل نشرها مجلة "إنكاونتر"، وهي مجلة كنت قد بعثت إليها العديد من القصص التي ترجمتها عن العربية، وقد رفضت جميعها. بعد أن تصفحت قصص الطيب صالح القصيرة ورواياته القصيرة أيضا، وروايته التي يمكن اعتبارها طويلة، تكون لدي انطباع قوي مفاده أنه كان يكتب لنفسه بمعنى من المعاني، فقد كانت لديه شكوك معينة حيال الحياة، وكان حريصا على حسمها لكي ينحيها جانبا وينساها. وبينما أجلس إلى مكتبي وأكتب هذه الكلمات، فإنني أجد نفسي أتطلع إلى لوحة خطية، فأدرك على الفور أنها تمنحني أكثر من إيماءة إلى ما كان الطيب صالح يكتبه عنها، هذه اللوحة تضم عبارة اخترتها بنفسي فأعطيتها إلى صديقي الخطاط منير الشعراني، وهي: "اللهم اجعلني أرى الأشياء كما هي". وقد خطر ببالي على حين غرة، أن هذه العبارة البسيطة تختصر بالنسبة لي ما كان جانب كبير من كتابات الطيب صالح، يسعى إلى قوله لقرائه. حظي الطيب صالح بشهرة يعتد بها على امتداد العالم، حتى في مصر حيث لا يهتم القراء هناك كثيرا بأعمال الكتاب غير المصريين. وتستند هذه الشهرة إلى حد كبير، على روايته التي حظيت باهتمام واسع النطاق للأسباب الخطأ، حسب تصوري، وهي "موسم الهجرة إلى الشمال". الموضوع الرئيس في هذه الرواية هو اللقاء بين الشرق والغرب، وهي بلا شك الرواية الأكثر عمقا ونفاذا من مجموعة من الروايات التي كتبت باللغة العربية حول هذا الموضوع. وتحدثنا رواية الطيب صالح عن مصطفى سعيد، وهو طالب سوداني شاب شديد الذكاء، يبتعث لاستكمال دراسته في إنجلترا، حيث ينتقم من الاستعمار الذي يعتبر نتاجا له، من خلال الإغواء بدم بارد للعديد من النسوة الإنجليزيات، وفي الوقت نفسه يجلب الدمار على نفسه. وفي غمار بحثه عن مكان ينسى فيه ماضيه ويشيد فيه أساس نوع من الحياة البناءة، يستقر في قرية عند منعطف في نهر النيل، وهناك يتزوج ويكون عائلة، ثم يغرق في أحد فيضانات النيل. ويجلب موته العديد من الأحداث المأساوية، التي تؤثر بعمق في حياة القرية. غير أن الاهتمام الرئيس برواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، يتركز في أنها تعد حجر الزاوية في الصورة المركبة لقرية ود حمد، التي تعد في خيال المرء إنجاز الطيب صالح الحقيقي. تلقت أعمال الطيب صالح المترجمة في الغرب، اهتماما نقديا من صحف مثل "صنداي تايمز"، التي وصف المحرر الأدبي فيها رواية موسم الهجرة إلى الشمال بأنها "أفضل رواية على امتداد العام". كما تحمس لها نقاد بارزون مثل كنغسلي إيميس وجون بيرغر. وقد ترجمت بعض كتابات الطيب صالح إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية والبولندية والنرويجية، بل وإلى العبرية أيضا. وتعود محدودية إنتاجه إلى حقيقة أن دافعه الوحيد للكتابة هو الاحتياج الداخلي بين الفينة والأخرى، إلى تسطير الأشياء على الورق، حيث كان من أكثر الناس استعصاء على غوايتي المال والشهرة. لم ينغمس الطيب صالح في صلات بالثقافة، وكان بطبعه رجلا متواضعا، ويستشعر بصورة أصيلة أن كتاباته قد أصبحت مادة مطلوبة للدراسة في العديد من جامعات العالم العربي وفي الولاياتالمتحدة. وشأن عدد من الكتاب الذين يقفزون إلى الذهب، مثل هاردي وفوكنر، فإن الطيب صالح قد شيد في قرية ود حمد مشهده الطبيعي الخاص وإطاره لكتاباته. ولا شك أن القرية مكونة من قريته وقرى أخرى موجودة في شمال السودان، وهي بلاد ذات حضارة تمتد إلى الأزمنة الفرعونية، وحيث حكمت مملكة قوية، ليأتي بعد ذلك الإسلام، وفي فترات متتابعة جاء اليونانيون والرومان والعرب والأتراك وأخيرا الإنجليز. إلى هذه البقعة من الأرض الغافية على صدر النيل، استشعر الطيب صالح، فيما كان يقيم في الخارج معظم حياته، مثل هذا الحنين القوي، ومن خلال هذا الحنين بنى في أعماقه رغبة في أن يجعل من هذا الافتراق عن وطنه شيئا ملموسا وخالدا. نوع المقال: عام