تكشف موجة تكريم نيلسون مانديلا العالمية أننا لسنا نودّع هذا الرجل عند مماته فحسب، بل نخسر أيضاً نوعاً فريداً من القادة على الساحة الدولية اليوم. وبالتالي، نحن نرثي هذا الواقع بالطريقة ذاتها. لقد تمتّع مانديلا بقدر هائل من «السلطة المعنوية». لماذا؟ وكيف حصل عليها؟ يمكن استنباط الجواب بمعظمه من مشهد فيلم عن مانديلا، سبق أن كتبتُ عنه، بعنوان «الذي لا يُقهَر». وسأشير، بداعي التذكير فحسب، إلى أنّ هذا الفيلم يتناول عهد مانديلا الرئاسي الوحيد في جنوب إفريقي. وقد أوكل خلاله فريق الركبي الشهير في بلاده، «سبرينغبوكس»، مهمة الفوز في مباريات كأس العالم للركبي، ليباشر بالتالي في لأم جراح هذه الدولة المشتّتة بسبب نظام الفصل العنصري فيها. غير أنّ اللجنة الرياضية في جنوب إفريقيا خلال مرحلة ما بعد الفصل العنصري، التي باتت تحت قيادة سوداء جديدة، طلبت من مانديلا قبل المباريات تغيير اسم فريق «سبرينغبوكس» وألوانه، بعد أن كان مؤلفاً بشكل شبه كلي من لاعبين بيض البشرة. أمّا الغاية من ذلك، فكانت رغبة في أن يعكس الفريق هوية إفريقيا السوداء بشكل أكبر. إلا أن مانديلا رفض الأمر، وقال لمسؤولي قطاع الرياضة السود إنّ توفير جوّ من الارتياح في أوساط البيض في جنوب إفريقيا، التي بات يحكمها العرق الأسود، يقضي في جزء أساسي منه بعدم التخلّص من جميع الرموز التي يحبّها البيض. وفي الفيلم، قال مانديلا، الذي أدى دوره مورغان فريمان، «إنّه تفكير أناني ولا يخدم البلاد». وأضاف في ما بعد، بالكلام عن البيض في جنوب إفريقيا، «علينا أن نفاجئهم بتحفّظنا وكرمنا». يحمل هذا المشهد القصير دروساً مهمة على صعيد القيادة. ويفيد أوّلها بأن إحدى الطرق المحتملة لتوليد السلطة المعنوية تقضي بإظهار المرء رغبةً في تحدّي قاعدته الخاصة أحياناً، بدلاً من الاكتفاء بتحدّي الطرف الآخر. من السهل إخبار قاعدتك بما تريد هي سماعه، كما تسهل القيادة إن استغنيتَ عن بعض الأمور. وكذلك، تسهل القيادة عندما تسير الأمور على ما يرام. إلاّ أنّ الأصعب هو أن تدفع بمجتمعك إلى القيام بمهمّة كبيرة وشاقة من خلال رصّ صفوفه، علماً أنّ الطريقة الوحيدة للنجاح في ذلك لا تقضي فقط بمطالبة قاعدة الطرف الآخر بالإقدام على مهمّة صعبة -كمطالبة البيض بالتخلي عن حكم الأكثرية للسود، في وضع جنوب إفريقيا - بل أيضاً بتحدي قاعدتك الخاصة، لتنجز هي التالية مهاماً صعبة: كمطالبة السود بعدم الانتقام في أعقاب سنوات طويلة من الحكم الأبيض الوحشي المعادي، كما في وضع جنوب إفريقيا. وقال سيدمان «إن القادة الذين يأتمنون شعبهم بالحقيقة وبالوقائع الدامغة ينالون ثقته بالمقابل». وقد تطول الفترة قبل أن يشعروا بالارتياح في حال تجاهلوها أو أخفوها. وفي النهاية، أفاد سيدمان بأن «مانديلا حقق أهدافاً كبيرة من خلال التواضع». وشرح سيدمان أن «هذا التواضع الخارج عن المألوف، المصحوب برغبة بائتمان شعبه بالحقيقة، سمح لمانديلا باستحداث فسحة أمل، حيث وثق ما يكفي من الناس في جنوب إفريقيا ببعضهم البعض، ما سمح لهم بتوحيد صفوفهم وبإنجاز مهمّة صعبة تمثّلت بخوض المرحلة الانتقالية معاً. نوع المقال: عام