من داخل هذا المكان الذي تفوح منه رائحة الموت، ترقد أكثر من 54 جثة مجهولة قضت نحبها خلال فض اعتصامات مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي في 14 أغسطس الماضي. غالبية الجثث مطموسة الملامح فما يقرب من النصف الآخر متفحم إثر تعرضها للحرق والباقي بين إصابات في الرأس شوهت ملامح الوجه، واخرون تبدلت ملامحهم بسبب التعامل غير المناسب مع الجثث . وحشة المكان، الذي يأوي هذه الجثث المجهولة، "مشرحة زينهم" بوسط القاهرة تدفعك لشعور بالرهبة، فهذا هو المكان الذي يستقبل أساسا ضحايا الحوادث وجرائم القتل الجنائي، لكنه تحول مؤخرا لاستضافة قتلى من نوع آخر.. ضحايا فض اعتصامات مؤيدي الرئيس المعزول والذين بلغوا بحسب الإحصاءات الحكومية ما يقرب من 600 قتيل بينما تشير إحصائيات التحالف المؤيد لمرسي إلي نحو2600 قتيل. "مشرحة زينهم" كانت الأيام الماضية قبلة كل ملهوف علي غائب أو مكلوم في قتيل، ليس فقط لأهالي من قضوا نحبهم في فض اعتصامات ميداني "رابعة العدوية" و"النهضة" بالقاهرة، ولكن انضم اليهم 37 سجينا ماتوا داخل سيارات ترحيلات للشرطة في أبو زعبل بعدما تم ضربهم بالغاز المسيل للدموع داخل سيارة الاحتجاز في ظروف تضاربت الروايات بشأنها. وفي تصريحات خاصة للأناضول، أوضحت الطبيبة ماجدة القرضاوي، رئيسة مصلحة الطب الشرعي المصرية، أن "المشرحة استقبلت حتي 21 أغسطس 622 حالة معلومة و54 جثة مجهولة". وفي بيانات أكثر تفصيلا، قالت: "استقبلت المشرحة من ميدان النهضة 25 حالة (جثة) من بينها 23 مدني و2 من رجال الشرطة، كما استقبلت من رابعة العدوية 285 حالة من بينهم 278 مدني و7 رجال من الشرطة بينما استقبلت في الأيام التي أعقبت ذلك 275 حالة من أحداث رمسيس والجيزة بالقاهرة (حيث جرت اشتباكات بين مؤيدي مرسي ومعارضيه أو مع الأمن أحيانا) وغيرها من بينها 255 مدنيا و20 من رجال الشرطة بجانب 37 جثة من احداث ما يعرف بأبو زعبل". وشددت رئيس الطب الشرعي علي أن "عمل المصلحة ليس له علاقة بالسياسة وأن الطبيب الشرعي يتعامل مع الجثة ويترجم تعامله إلى تقرير (عن أسباب الوفاة) أما فيما يخص التكيف القانوني فهذا يكون بحسب التحقيقات". ونفت ماجدة القرضاوي أن تكون هناك أي ضغوط مورست من قبل المصلحة علي أهالي الضحايا. وكان عدد من أهالي ضحايا فض اعتصامي رابعة والنهضة، قد قالوا في تصريحات لهم إن مصلحة الطب الشرعي رفضت منحهم تقارير تثبت وفاة ابنائهم نتيجة للقتل، وتطالبهم في المقابل بالتوقيع علي تقرير تتضمن أن الوفاة نتيجة "الانتحار". وأوضحت ماجدة القرضاوي أن "الطب الشرعي لا يجزم عادة بحالة الانتحار حتي يذكرها في التقرير" وتحدت أن تكون هناك نسخة واحدة من تقرير كتب فيها "حالة انتحار". وعن مصير الجثث ال54 المجهولة، أوضحت رئيسة الطب الشرعي أن "المصلحة انتهت من أخذ عينات DNA أو الحمض النووي من الجثث المجهولة وتم تصوير الجثث والقيام بعرضها، ومن يريد الحصول علي جثة يثبت تعرفه عليها، يجب أن يحصل علي إذن من النيابة" حيث يتم عادة أخذ عينه من الأقارب وتحليلها فإذا تم تطابقها مع الجثة يتم تسليمها إلى الشخص المعني من أهل المتوفي. وأشارت إلى أن أطول فترة للاحتفاظ بالجثث في المشرحة تتراوح ما بين 3 أسابيع إلي 3 شهور، بعدها يتم دفنها بأمر من النيابة. "مشرحة زينهم" لم تكن قبلة ضحايا الاعتصامات والاحتجاجات في مصر هذه الأيام فقط، ولكن منذ ثورة يناير 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، بحسب تقديرات رسمية، كان هذا المكان أيضا قبلة الضحايا الذين سقطوا في مواجهات مع قوات الأمن خلال أحداث الثورة ( 25 يناير - 11 فبراير 2011) التي امتدت 18 يوما سقط خلالها ما يقرب من 1200 قتيل، بحسب الإحصاءات الرسمية. وهكذا أصبحت بوابة وجدران تلك المشرحة التي كتب على بعضها أسماء ضحايا الأحداث من يناير 2011 حتى سيارة ترحيلات "أبو زعبل"، شاهدة علي عامين ونصف العام من الثورة المصرية. جدران المشرحة كذلك تحمل شعارات سياسية منها "يسقط المرشد" العام لجماعة الإخوان المسلمين، وأخري تقول: "يسقط حكم العسكر"، كما تتضمن استغاثات ومناشدات أهالي جأءوا للمشرحة باحثين عن جثث قريب لهم ولم يجدوها، فلصقوا صورته على الجدران مع مناشدة أهل الخير بالمساعدة في البحث عنه.. ولا تزال منذ شهور العشرات من الصور المعلقة علي الجدران بأسماء شباب وأطفال مفقودين. كما تحمل جدران "زينهم" اعلانات عن وجود اكفان وتوابيت مجانية في مسجد قريب من المشرحة للحالات الفقيرة، فضلا عن أرقام هاتفية للإبلاغ عن مفقودين في الأحداث الأخيرة. على تلك الجدران، يمكن لأي مصري أن يستعيد سريعا ذكريات قريبة مؤلمة.. ومع توالي الأحداث سريعا في مصر، تتغير الوجوه وأسماء الضحايا، الا أنها تترك بصماتها وآلامها علي المكان فهذا شعار يشير لأحداث محمد محمود - بين السلطات ومعارضين لحكم الجيش خلال الفترة التي تلت ثورة يناير 2011، وذلك يشير لاحداث ومواجهات أخرى في مناطق مختلفة بالقاهرة كالعباسة وماسبيرو والاتحادية والحرس الجمهوري والمنصة وصولا إلى رابعة العدوية. ويبقى أن غالبية قتلي رابعة العدوية - من كثرتهم - لم تحتضنهم الثلاجات ولم يكرموا بسرعة الدفن بل تم وضعوا علي الأرصفة وممرات الطرق المؤدية إلي المشرحة، دون اتخاذ اي إجراءات تحمي الجثث من التعفن السريع في ظل درجات الحرارة المرتفعة. وظل بعضها على حاله هذا حتى اليوم التالي لفض اعتصام رابعة إلى أن تطوع البعض لسرعة دفنها.