منذ عقودٍ طويلة اعتاد المصريون على وجود طبيعة خاصة تربط علاقة القاهرةوواشنطن لا تتسم سوى بشيئين، الأول علاقة المصلحة الأمريكية التي هي أبداً مقدمة على مصلحة مصر، والثاني تأمين الكيان الصهيوني الذي اعتبره الكثيرون "الابن المدلل" لأمريكا، لذلك فقد نظر المصريون لكل مبادرات "العطف" الأمريكي - من مساعدات وغيرها - بنظرة الشك من منطلق المثل الشعبي البسيط القائل "الحداية مبتحدفش كتاكيت". وربما كانت العلاقات (المصرية - الأمريكية - الإسرائيلية) هي السبب الرئيسي لمقتل الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وقتها سادت حالة من الاستياء الشعبي الشديد أجواء مصر بعدما غير السادات البوصلة المصرية تجاه البيت الأبيض، وتحول الاستياء إلى غضب واحتقان بعد معاهدة السلام واتفاقية كامب ديفيد مع المُحتل. ومع قيام ثورة 25 يناير، اتجه الرأي العام لا شعورياً تجاه تل الربيع "تل أبيب" لاستطلاع توجهاته، وكم كانت الفرحة عارمة حينما سقط مبارك ليس فقط؛ لأنه يسيء الإدارة داخلياً لكن لأن إحساساً بالعار لازم كل المصريين وهم يسمعون قادة الصهاينة يصفونه ب"الصديق الوفي"و"الكنز الاستراتيجي". الآمال انعقدت - عقب تولي إدارة مصرية جديدة - على اتخاذ موقف سياسي جديد من واشنطن وبالتعبية من الدولة المزعومة لا يصل إلى حد الحرب ولكنه يحفظ ماء الوجه أمام العالم الحر. انتهت الفترة الانتقالية بما لها وما عليها ورحل المجلس العسكري ووصل الرئيس محمد مرسي إلى سُدة الحكم ومعه جماعة الإخوان المسلمين، وظن المصريون أن الاستعدادات بدأت وأن شعار "خيبر خيبر يا يهود .. جيش محمد سوف يعود" سيصبح حقيقة ، وأن الجماعة ستنفذ ما وعدت به "ع القدس رايحين شهداء بالملايين" .. لكن ما وجد المصريون كان مخيباً للآمال. تخوفات من "الاتحادية" صُدم أهل المحروسة حينما فوجئوا بالخطاب "البروتوكولي" الموجه إلى "الصديق العزيز" شيمون بيريز "رئيس دولة إسرائيل"، وعلى الرغم من أن الخطاب كان شكلياً وموجهاً إلى العديد من رؤساء الدول بالصيغة نفسها إلا أنه ترك انطباعاً سلبياً لدى المصريين وتخوفاً من أن يسير النظام الجديد على شاكلة النظام القديم. الفزع تضاعف مع تصريحات مساعد الرئيس للشؤون الخارجية، التي قال فيها :"إن التعاون اليومي مع إسرائيل مستمر كالمعتاد، رغم عدم وجود اتصالات على المستوى الرئاسي"، مشيرًا في حوار أجرته مع وكالة أنباء رويترز، إلى أن الرئيس محمد مرسي سيحترم بدقة معاهدة السلام مع "إسرائيل". وبالتبعية فقد انسحبت التخوفات إلى واشنطن التي تعتبر نفسها المسؤول عن بقاء "الصهاينة" بالمنطقة، خاصة في ظل علاقات شبه وثيقة بين الإخوان والبيت الأبيض. عصام العريان كتب في جريدة الحياة اللندنية، مقالاً موجهاً للإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس باراك أوباما، عنوانه، "الإخوان المسلمون والإدارة الأمريكية الجديدة.. هل من جديد؟". وهو ما اعتبره البعض مغازلة صريحة من جماعة الإخوان للولايات المتحدةالأمريكية، علناً، والغريب أن بداية العلاقة وفقاً للعريان، جاءت بمبادرة أمريكية فى عهد الرئيس كارتر، للوساطة فى مسألة الرهائن مع الإيرانيين بعد الثورة الإسلامية هناك، وقبل التلمسانى، المرشد الإخوانى وقتها، الطلب الأمريكى، ولكن رفضته إيران!. وعندما وجهت للعريان دعوة لزيارة خاصة للولايات المتحدة لشهر فى أواسط الثمانينات، رفض العريان ذلك، لاعتبارات برلمانية ودراسية وشخصية، وأكد فى مقاله، أن هذا لم يكن موقفا إخوانيا، بقدر ما كان موقفه هو، حيث أكد المرشد وقتها، مأمون الهضيبى، أن الجماعة لا تُمانع!!. وفي إشارة العريان إلى أن الإخوان كانوا يُغازلون إدارة جورج بوش الابن، قال بالنص :"مع قدوم إدارة الرئيس جورج بوش كانت كارثة 11 سبتمبر الرهيبة والتى ما زالت آثارها تتداعى حتى يومنا هذا، وأدان الإخوان تلك الحادثة فى صباح اليوم التالى فى موقف يتسق تماماً مع منهجهم ومع شريعة الإسلام ومع ما سبق من اعتراضات ضخمة للإخوان على السياسات الأمريكية خصوصاً منذ الحملة على العراق لتحرير الكويت، ومع ذلك كان بيان الإدانة مقتصراً على رفض هذا النهج العنيف من دون إشارة إلى سياسات أمريكية، وعلى رغم ذلك تباعدت المواقف جداً بين الإخوان وبين إدارتى بوش "الابن". وتكلم العريان عن اللقاءات المتعددة التى ضمت الإخوان والأمريكان، ثم أنهى المقال، بمناشدة باراك أوباما، مثلما "اعتاد" الإخوان المسلمون" توجيه رسالة مفتوحة إلى الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين منذ رونالد ريغان وبوش الأب وكلينتون وفى الدورة الأولى لبوش الابن، فتح صفحة جديدة مع الإخوان!!. غزل غريب في أواخر العام الماضي - أي بعد الانتخابات الرئاسية بما يقارب ستة أشهر - صدر تقرير عن مركز "بروكينجز" الأمريكي، ونشرته مجلة "فورين بوليسي" ويعد مركز "بروكينجز" من أهم مراكز الأبحاث الأمريكية التى تشارك فى صنع القرار، ويرأسه ستروب تالبوت الذى كان يشغل منصب النائب الأول لوزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في إدارة الرئيس كلينتون، وتضم هيئة مستشارين المركز نخبة من كبار السياسيين الأمريكيين مثل الوزيرة أولبرايت، والمستشار بريجنسكى، وصامويل بيرغر، وغيرهم من كبار صناع السياسة الأمريكية. تقرير مركز بروكينجز يتهم بشكل مباشر كافة القوى السياسية فى مصر - ما عدا الإخوان المسلمين - بأنهم أعداء للديمقراطية الوليدة فى مصر، وأنهم متكالبون على السلطة، وأنهم يغارون من الإخوان المسلمين "الذين تدعمهم واشنطن من منطلق تعزيز الديمقراطية". وهو حقاً، شىء غريب للغاية ووضع يكاد يكون معكوساً أن يعتبرالأمريكيون الليبراليين أعداء الديمقراطية والإخوان المسلمين هم أنصارها، ويتهم التقرير الليبراليين المصريين بالغرق فى نظرية المؤامرة لأنهم يتوهمون وجود علاقات خفية بين واشنطن وجماعة الإخوان، ويقولون أنهم وصلوا للحكم والسلطة في مصر بدعم أمريكي. العلاقات المريبة بين الإخوان والبيت الأبيض لم تقتصر على حد التواصل والغزل، لكن الأمر وصل إلى حد الدفاع عن الرئيس محمد مرسي تحت قبة الكونجرس. جون كيري وزير الخارجية الأمريكي وقف أمام النواب ليدافع باستماتة عن التصريحات التي أدلى بها مرسي في تصريحات سابقة حول "القردة والخنازير" ليؤكد أن الرجل أكد أن "الفيديو" مجتزأ من سياقه وأنه يتحتم عليه تقديم اعتذار عما بدر منه، وعلى الرغم من أن سياق كلام وزير الخارجية جاءت في سياق الدفاع عن مرسي إلا أنه كانت هناك نبرة تعالي تؤكد أن علاقات القاهرةبواشنطن لا يمكن أن ترتقي إلى "الندية". واقعة زلط في واقعة مثيرة - وفي شهر ديسمبر الماضي أيضاً - قام أحد المنشقين عن جماعة الإخوان بمحافظة الغربية بالخروج عقب صلاة العصر والوقوف بمفرده أمام مسجد الشيخة صباح متهماً الجماعة بالكذب والخداع، مؤكداً أن مرسي رئيسا غير شرعي للبلاد كما أكد على وجود علاقات تحكمها المصلحة الشخصية بين الإخوان والأمريكان لا يستطيع أن ينكرها أحدهم. وتعود أحداث الواقعة بعدما خرج "عبد الحليم زلط" أحد المنشقين عن جماعة الإخوان، ممسكا بمكبر صوت في شارع البحر الرئيسي بمدينة طنطا قائلاً :"إن الولاياتالمتحدة رأت في الإخوان ركنا قوياً في الشارع فأرادت أن تتخذ منه طريقا لتحقيق أهدافها ومصالحها السياسية". وإذا كانت شخصية المنشق منكرة وغير معروفة، فإنه يظل واحد من سلسلة منشقين أكدوا الكلام نفسه مراراً وتكراراً من بينهم الدكتور ثروت الخرباوي والمحامي مختار نوح .. وهو ما يجب أن يسترعي انتباه القيادات المصرية لتصحيح مسارهم خاصة وأنه ليس إجبارياً.