بعدما تدخلت قوى الاستعمار المعاصر في أفغانستان فمزّقوها جغرافياً وديموغرافيًا، وقتلوا الآلاف من أهلها، وغزوا العراق واحتلوه وأدخلوه في صراع طائفي، وشتتوا الملايين من أبنائه، وهجّروا طبقته الوسطى، وحوّلوه إلى أكثر بلدان العالم فساداً، ثم أكملوا مخططهم بقصف ليبيا واليمن، ويدعمون بقوة الانتفاضة في سورية،، ها هي قوى الاستعمار الغربية تستكمل مخططها القديم في استنزاف موارد دول العالم النامي، من خلال التدخل الفرنسي في مالي، دون مبرر، سوى أن باريس تسعى للسيطرة على هذه المنطقة من القارة السمراء الغنية جداً بالموارد. عناوين مختلفة ما يجري حاليًا هو عودة للاستعمار القديم تحت عناوين ومسميات مختلفة، تارة لتغيير أنظمة ديكتاتورية، وتارة أخرى لفرض قيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان، فقد ذهبت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية إلى الجزائر على أمل إقناع حكومتها بالتدخل عسكرياً لإنهاء الوجود الإسلامي في مالي، أي إغراقها في حرب استنزاف دموية ومالية لسنوات قادمة. وهذا ما كان جزءاً هاماً من مباحثات الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند خلال زيارته الأخيرة للعاصمة الجزائر. سحر النفط لا يستطيع مراقب إنكار أن "النفط" هو عنوان كل التدخلات العسكرية الغربية في دول العالم الإسلامي، والتدخل في مالي لن يكون استثناءً، صحيح أن مالي فقيرة في النفط، لكنها مجاورة لأكبر حقول النفط والغاز في أفريقيا (الجزائر ونيجيريا)، مضافاً إلى ذلك إحتواء أراضيها على مخزون كبير من اليورانيوم والمعادن الأخرى الثمينة، مالياً واستراتيجياً. الولاياتالمتحدة التي تتنافس بشراسة مع الصين للسيطرة على أفريقيا، بهدف إقامة قيادة عسكرية خاصة لإدارة الصراع عليها تحت اسم 'افريكوم' سارعت لتأييد التدخل العسكري الفرنسي في مالي ودعمه، وعلينا أن نتوقع أفواجا جديدة من طائرات بدون طيار تقوم باصطياد الإسلاميين المقاتلين وغير المقاتلين، تماماً مثلما يحدث في أفغانستان واليمن. لكن من المتوقع أن تواجه فرنسا المصير ذاته الذي واجهته أمريكا في العراق وأفغانستان، وربما تكون النتائج أسوأ، لأن التدخلات العسكرية الغربية في القرن الواحد والعشرين لم تعد سهلة وميسّرة وغير محفوفة المخاطر على غرار مثيلاتها في مدخل القرن العشرين. كما يتوقع المراقبون أن تتحول منطقة الساحل الأفريقي إلى منطقة فوضى دموية، لأن الجماعات الجهادية التي تنتقل في ثنايا صحاريها مسلحة حتى النخاع، بفضل التدخل العسكري الغربي في ليبيا، حيث خرجت هذه التنظيمات الرابح الأكبر منه، وحصلت على أسلحة لم تحلم في حياتها بالحصول عليها، بحيث بات سعر البندقية الآلية من طراز كلاشينكوف لا يزيد عن عشرين دولارا. ورغم أن فرنسا ذهبت إلى مالي بدعوى القضاء على تنظيم القاعدة ومنعه من إقامة قاعدة له قريبة من سواحلها، لكن هذا التدخل قد يأتي بنتائج عكس ما تريده باريس. أحداث متلاحقة وبنظرة تاريخية للأوضاع في مالي، فقد سيطرت مجموعات من المسلحين الجهاديين منذ 9 أشهر على المناطق الشمالية، بعد أن استولوا عليها في أعقاب تمرد مسلح للطوارق قادته الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تسعى للانفصال بإقليم "أزواد" في الشمال عن باقي البلاد وإقامة دولة مستقلة بالإقليم. وكانت الأحداث قد بدأت شرارتها مع سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا خلال أغسطس 2011، حيث شرع المئات من المسلحين الطوارق ممن كانوا يقاتلون في صفوف قوات القذافي حتى سقوطها في العودة إلى مواطنهم في النيجر ومالي وبرفقتهم سيارات عسكرية وأسلحة متطورة وذخائر. وهناك تهيأ لمجموعات الطوارق المسلحين التجمع لخوض حرب في مواجهة الجيش النظامي كان من نتائجها وقوع انقلاب عسكري في العاصمة باماكو يوم 22 مارس 2012 نفذه جنود بالجيش أطاحوا بالرئيس آمادو توماني توري، كما تمكنت حركة تحرير أزواد، العلمانية، بالتحالف مع جماعة أنصار الدين، الجهادية من السيطرة على المناطق الشمالية التي انسحب منها الجيش. لكن هذا التحالف ورغم مما بُذل في سبيله من جهود لم يدم طويلاً، إذ نشبت الخلافات سريعًا بين الحركة الوطنية لتحرير (أزواد) وحليفتها السابقة جماعة "أنصار الدين" التي تمكنت من بسط سيطرتها على الشمال، بعد معارك واسعة بين الطرفين في الأسبوع الأخير من يونيو الماضي، أدت إلى مقتل العشرات. وإلى جانب جماعة "أنصار الدين" تتوزع السيطرة حالياً على مناطق شمال مالي ومدنها الكبرى تمبكتو وغاو وكيدال، التي تمثل مجتمعة أكثر من نصف مساحة البلاد، بين كل من حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي المتحالفين معها، فضلاً عن عدد من الكتائب والسرايا مثل كتيبتي "أنصار الشريعة" و"الملثمين". جماعات ومناطق سيطرة * حركة أنصار الدين، هي جماعة مسلحة "جهادية" تقول إنها تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية على كامل التراب المالي، لكن لا تطالب باستقلال شمال البلاد على عكس حركة تحرير أزواد التي تسعى إلى انفصال الشمال لإقامة دولة أزواد. مؤسس أنصار الدين هو ''إياد آغ غالي''، وهو من أبناء قيادات قبلية تاريخية وعسكري سابق، وزعيم تاريخي في تمرد قبائل الطوارق خلال التسعينيات من القرن الماضي، ينحدر من أسرة أزوادية عريقة في (كيدال) بأقصى الشمال الشرقي لمالي. معظم المنتمين للحركة من أبناء الطوارق على عكس جماعات أخرى أغلب عناصرها من العرب. * القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، يقيم تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" المنبثق عن الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، والتي كانت قد ولدت، بدورها، من رحم الجماعة الإسلامية المسلحة قواعد خلفية له في مناطق الصحراء الكبرى ومن بينها شمال مالي منذ سنوات، ينطلق منها لشن عملياته، لذلك فهو التنظيم المسلح الأقدم في المنطقة والأكثر خبرة، وأيضا الأقدم في التواصل وإقامة للعلاقات مع شيوخ القبائل هناك. * حركة "التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا"، تعد إحدى أهم الحركات المسلحة "الجهادية" التي تنشط بالمناطق الشمالية، وهي حركة منبثقة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ويقودها (محمد ولد نويمر)، ومعظم عناصرها من العرب. تدعو الحركة إلى الجهاد في غرب إفريقيا، وتتمركز سيطرتها في مدينة (قاو) الواقعة على نهر النيجر في شمال شرق مالي، وكانت "التوحيد والجهاد" تتقاسم السيطرة على المدينة مع "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" بعد طرد الجيش المالي منها، وقبل أن تطرد فيما بعد عناصر الحركة الأزوادية على خلفية صراع بين الطرفين استمر نحو شهرين. * كتيبة "أنصار الشريعة"، أسسها عمار ولد حماها، المنحدر من قبائل عربية الذي سبق وطاف على كل الجماعات المسلحة "الجهادية" في مالي قبل أن يشكل كتيبته بعد خروجه مباشرة من جماعة "التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا". * كتيبة "الموقعون بالدماء"، يتزعمها الجزائري خالد أبو العباس "مختار بلمختار" وكان قد شكلها حديثا بعد عزله من زعامة "كتيبة الملثمين" من قبل تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وهو ما وصفته القاعدة وقتها بأنه عزل لا يعدو كونه "إجراءً إدارياً وتنظيمياً" اتخذه أمير التنظيم أبو مصعب عبد الودود والتزم به أبو العباس. لكن بلمختار خرج ليشكل تنظيمًا جديدًا يحمل اسم "الموقعون بالدماء"، وبالرغم من ذلك ظل حريصا على التزامه بوحدة القرارات التي تتخذها التنظيمات المسلحة حيال الأزمة في شمال مالي. * حركة تحرير أزواد، عقب هزيمتها على أيدي مسلحين "جهاديين" ومطاردة عناصرها من مدينة إلى أخرى في شمال مالي يمكن القول أن "حركة تحرير أزواد" باتت تعاني مما يشبه الاحتضار. فالحركة تعاني من عدة ضوائق مجتمعة ليس أقلها الضائقة المالية أو نفاد أسلحتها وذخيرتها، بل ربما أن العديد من عناصرها سارعوا للالتحاق بأعدائها من الجماعات الإسلامية مثل حركة أنصار الدين، الأيسر حالاً والأكثر رجالاً وعتادًا.