معارضة الإعلان الدستوري، الذي أصدره الرئيس محمد مرسي، مساء الخميس 22 تشرين أول/نوفمبر، هي حق أصيل لمن عارضوه، جزئياً أو كلياً. في دولة حرة، لا يجب أن يترك مركز للسلطة، ناهيك عن صاحب الموقع التنفيذي الأعلى، بلا معارضة. ولكن التوسل بمعارضة الإعلان الدستوري لإسقاط الرئيس، وتوظيف القضاء بصورة فجة في المواجهة، والانتقال بها من المحافل السياسية المعتادة إلى الشارع، كان خطأ، كشف عن فقدان حنكة سياسية ووعياً قاصراً بميزان القوى الشعبي لدى قادة المعارضة. هذه معركة لم يكن لها من ضرورة، سيما والبلاد تحث الخطى نحو نهاية المرحلة الانتقالية وتوطيد أسس الدولة الجديدة. ليس ثمة شك، كما أشرت سابقاً، في أن الإعلان الدستوري احتوى مادة أو اثنتين، بين مواده الست، مثيرة للاستفزاز. وربما لم يكن الرئيس بحاجة ملحة لمادة التحصين الثانية، على وجه الخصوص. ولكن مرسي، وبعد مرور أكثر من عام ونصف العام على سقوط النظام السابق، وجد أن قوى داخل الدولة وخارجها، وداخل مصر وخارجها، لا تريد للمرحلة الانتقالية أن تنتهي، ولا لعملية بناء مؤسسات الحكم والدولة أن تكتمل، ولا للنظام السياسي الجديد أن يستقر. دوافع مرسي لإصدار الإعلان الدستوري كانت واضحة وصريحة، ولم تكن تحتاج إلى كثير من التأويل والمبالغة. تركت البلاد خراباً كارثياً بعد عقود ثلاثة من الاستبداد والنهب المنظم، ولم يكن باستطاعة الرئيس اتخاذ قرار كبير في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة بدون توفر شروط الاستقرار السياسي. ولأن قطاعاً بالغ الأهمية والنفوذ من المؤسسة القضائية كان معادياً للثورة والتغيير السياسي، وتحول بعدائه للثورة إلى استهداف الرئيس، فقد أصبحت المؤسسة عقبة كأداء أمام إنجاز مهمات التغيير والاستقرار. ما أعطى المؤسسة القضائية هذا الدور المحوري في التحكم بالمرحلة الانتقالية أن المصريين اختاروا في ثورتهم، كما الثورة التونسية، إطاحة نظام الحكم والمحافظة على جسم الدولة. لم يكن ثمة جدل حول ضرورة إصلاح الدولة المصرية؛ ولكن مسار الثورة المصرية مضى نحو الإصلاح السلمي والتدريجي للدولة وليس الانقلابي الثوري. وقد تعزز هذا المسار بأن سلمت مقاليد البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي لم يرغب في انتهاج طريق جذري للإصلاح ولم يتصور، بطبيعته وتوجهاته، أن هناك ضرورة للإصلاح الجذري. وفر هذا المسار لقوى عديدة في جسم الدولة فرصة المحافظة على مواقعها ولعب أدوار متفاوتة في تحديد سقف عملية التغيير وأهدافها. هل من المعقول، مثلاً، في بلاد شهدت ثورة بحجم الثورة المصرية، أن يبقى قضاة المحكمة الدستورية، التي اعتبرت دائماً ركيزة من ركائز النظام السابق، في مواقعهم؟ هل من المعقول أن يبقى النائب العام، الذي اختاره الرئيس المخلوع وعينه في موقعه، والذي تعهد أدواراً في مسيرته الوظيفية لم تكن تليق برجل قانون، في منصبه؟ هل من المعقول أن يبقى رؤساء مؤسسات الدولة المتخصصة، بالغة الأهمية في بنيان الدولة، مثل الجهاز المركزي للحسابات، والتعبئة والإحصاء، والكسب غير المشروع، ومثلهم عدد كبير من مستشاري أجهزة الدولة الاخرى، في مناصبهم؟ هل من المعقول أن يبقى رئيس نادي القضاة (الذي يقوم بمهام نقابة الجسم القضائي)، بكل صلاته الوثيقة بالنظام السابق، في موقعه؟ عندما ينهار نظام للحكم، من المفترض، أخلاقياً وسياسياً، على الأقل، أن يبادر كل من ارتبطوا به بصورة وثيقة، ودافعوا عنه، وساهموا في بقائه واستمراره، في التخلي عن مواقعهم. كانت الثورة تصويتاً شعبياً هائلاً بعدم الثقة في النظام، ليس في رأس النظام وحسب، ولكن أيضاً في أركانه وأدواته والمتحدثين باسمه في دوائر الدولة وأذرعها المختلفة. ولكن أحداً من هؤلاء لم يتخل عن منصبه، بل واستمر في لعب أدوار تعطيلية لمسار الانتقال والتغيير. وهذا ما اضطر مرسي لاتخاذ الخطوة الاستثنائية الممثلة في الإعلان الدستوري. احتوى الإعلان على مادتين مثيرتين للجدل بلا شك، الثانية، التي تحصن كل قرارات الرئيس منذ توليه مقعد الرئاسة، والسادسة، التي تستبطن منح الرئيس سلطة إعلان حالة الطوارىء أو إقامة محاكم خاصة. كل المواد الأخرى تعكس مطالب شعبية، أعلنت منذ الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام، وتأكدت في مناسبات متكررة بعد ذلك، أو أنها باتت ضرورية لتوفير دفعة كافية للمسار الانتقالي والانتهاء من بناء مؤسسات الدولة. حق الرئيس في إصدار إعلان دستوري لم يكن، وليس موضع جدل. الجدل حول ما إن كانت صيغة الإعلان صحيحة أم لا. كان يمكن للشخصيات والقوى التي عارضت الإعلان الدستوري أن تؤكد معارضتها، أسباب هذه المعارضة، وتمضي نحو التفاوض مع الرئيس لتعديل الإعلان أو إيجاد طريقة أخرى لتحقيق أهداف الثورة ومطالب الشعب. لكن المعارضة سلكت طريقاً مختلفاً كلية. أعلنت قيادات المعارضة عن تشكيل جبهة إنقاذ وطني، وهي التي لم تقم بمثل هذه الخطوة والملايين يتظاهرون ضد نظام مبارك؛ أعلنت رفضها أية مفاوضات مع الرئيس، منذرة اياه بالتخلي الفوري عن الإعلان الدستوري؛ أثارت من تستطيع من قيادات النقابات المهنية؛ استدعت، عن سابق تصميم وتصور، الجسم القضائي إلى المعركة مع الرئيس؛ وأخذت في حشد الشارع لحسم المعركة. وفي السياق، وطوال أسبوع كامل، وصف رئيس الجمهورية المنتخب بأبشع الأوصاف، شكك في شرعيته وعرض شخصياً للسخرية، إلى جانب البذاءة التي رميت بها جماعة الإخوان المسلمين، وكأن هؤلاء لم يكونوا يوماً شركاء النضال، ووقوده، ضد طغيان النظام السابق. عنوانان رئيسيان برزا في المعركة التي خاضها البرادعي وعمرو موسى وحمدين صباحي: دكتاتورية مرسي، وتغيير النظام. في دولة حرة وديمقراطية، لا يجب الوثوق بأي صاحب سلطة، لا بنواياه ولا بأية سياسة ينتهجها، تنم عن أية درجة من الغموض. ولكن وصف رئيس لم يتسلم السلطة إلا منذ خمسة شهور، وفعلياً قبل ثلاثة شهور فقط، رئيس جاء لموقعه في انتخابات حرة، وبعد ثورة شعبية عارمة، بالدكتاتورية، هو وصف مثقل بالمبالغة والإثارة والتشهير. ليس ثمة مستبد بدأ حكمه في شهوره الأولى بالاستبداد؛ حتى مبارك بدأ في سني حكمه الأولى ديمقراطياً وحريصاً على الحريات وتلبية مطالب الشعب والاستجابة للقوى السياسية. هذا، فوق أن مرسي لم يسع إلى السلطة التشريعية، وحاول من قبل إعادة مجلس الشعب للانعقاد، ولم تفشل محاولته تلك سوى المحكمة الدستورية الحالية، التي تدعي الآن حراسة للقانون والدستور. كما إن جوهر إعلان مرسي الدستوري، بغض النظر عن الجدل حول مواده؛ هو تحصين الجمعية التأسيسية التي كانت توشك على الانتهاء من كتابة مسودة دستور، يقلص من صلاحيات الرئيس أصلاً؛ وتأمين مجلس الشورى، الذي يفترض أن يأخذ من الرئيس سلطاته التشريعية، بمجرد أن يوافق الشعب على مشروع الدستور؛ والإسراع بالعملية الانتقالية نحو انتخابات برلمانية جديدة، تضع نهاية قاطعة للالتباس في السلطة التشريعية. رئيس يرحب مساء 1 كانون أول/ديسمبر بمشروع دستور يحد من سلطاته كما لم تحدد سلطات رئيس منذ ولادة الجمهورية، يصعب اتهامه بالدكتاتورية بهذه الدرجة من الثقة والتحريض. ب يد أن الأخطر كان التوجه الضمني نحو إسقاط الرئيس، ودفع الشارع لتبني هذا الهدف، بل والصمت عن اندلاع العنف والتحريض عليه، طالما أن العنف كان موجهاً ضد أنصار الرئيس وحزب الحرية والعدالة والإخوان المسلمين. ما لم يدركه قادة المعارضة الثلاثة، أولاً، أن استدعاء الشارع كان استراتيجية خاسرة من البداية؛ وأن المصريين كانوا في أغلبيتهم واعين بأن معركتهم مع الرئيس سبقت الإعلان الدستوري؛ وأن إسقاط مرسي بقوة الشارع يعني أن رئيساً مصرياً لن يكمل ولايته لعقود طويلة قادمة. وجهت لمرسي الاتهامات منذ فوزه برئاسة الجمهورية، وبدلاً من التعاون معه للعمل على خروج البلاد من عنق الزجاجة، أحجمت المعارضة، إلا القليل من قواها وشخصياتها، عن مساعدة الرئيس على سلوك سياسة وطنية جامعة. ولكن التصعيد بدأ بالفعل عندما بدا أن الجمعية التأسيسية توشك على الانتهاء من وضع مشروع الدستور. عندها، وبالرغم من التوافق على معظم المسائل الإشكالية، أخذت شخصيات المعارضة وممثلي الأحزاب في الانسحاب من الجمعية وتحريض الآخرين على الانسحاب. وما إن انتهت الجمعية من عملها ووضع بالفعل مشروع الدستور، حتى تصاعد الهجوم على الدستور والجمعية والرئيس، بدون أية مساع حقيقية لإطلاق حوار شعبي جاد حول مضامين مشروع الدستور، الذي وصفه قانونيون مصريون كبار بأعظم وثيقة دستورية مصرية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. اللجوء إلى الشارع كان مغامرة ثلاثي المعارضة وخطأهم الأكبر. انطلاق شارع موحد لتغيير نظام استبدادي شيء، وحشد شارع منقسم لإسقاط رئيس منتخب وشرعي شيء آخر. حشد المعارضة للشارع، كان يستدعي حشد الشارع الآخر. والذي حدث أن الشارع الآخر هو الأكبر والأكثر تنوعاً وتصميماً وتعبيراً عن عموم المصريين. حمل الإعلان الدستوري في نصه عناصر أزمة سياسية بلا شك. ولكن الأزمة في جذورها تعود إلى ما قبل الإعلان الدستوري؛ وكان الأفضل للمعارضة أن تتعامل مع الإعلان تعاملاً سياسياً تفاوضياً، لا أن توظفه كأداة أخرى في معركة إسقاط الرئيس. في معركة إسقاط الرئيس، تنقلب المواجهة إلى توازن قوى، وفي توازنات القوة، المعارضة هي الطرف الأضعف. الآن، بانتهاء عمل الجمعية التأسيسية وكتابة مشروع الدستور ودعوة الشعب للاستفتاء عليه، ولد وضع جديد. وعلى الطرفين أخذ هذا الوضع في الاعتبار. على المعارضة أن تدرك، بعد أسبوع كامل من قصور النظر السياسي، أن معركة إسقاط الرئيس لم يكن لها من مبرر، ولا كان لها أن تحقق هدفها؛ وأن تنظر إلى المشاركة في الاستفتاء بالاعتراض على مشروع الدستور باعتباره جزءاً من واجباتها كمعارضة. وعلى الرئاسة أن تتبنى مقاربة توافقية، وأن تسعى لتهدئة المناخ والعمل على احتواء الاستقطاب السياسي؛ إذ ليس من مصلحة البلاد واستقرارها إجراء استفتاء على الدستور في ظل هكذا توتر.