النصوص والكلمات والكتابات في حد ذاتها لا تقول أي شيء .. إنما نحن فقط - القراء - من يمنحها القدرة على أن تكون لها معاني .. سواء معاني "خنيقة" .. أو لطيفة .. أو ضارة أو مفيدة .. أو معاني خاطئة أو صحيحة. فلا توجد نصوص أو كلمات أو كتابات .. تكون في حد ذاتها .. خنيقة أو لطيفة .. أو خاطئة أو صحيحة. بل توجد فقط .. "معاني" خنيقة أو لطيفة .. أو خاطئة أو صحيحة. وتوليد المعاني هي مهمة يسهم فيها القاريء .. بقدر ما يسهم فيها الكاتب .. فتوليد المعاني .. ليست مهمة الكاتب وحده .. بل ربما كانت مساهمة القاريء فيها أكبر من مساهمة الكاتب .. وذلك على غرار ما يفعل كافة القراء على الفيس بوك وتويتر .. في توليد معاني بديلة ومختلفة تماما .. عن تلك التي قصدها مباشرة كتاب البوست والستاتس والتويت .. من خلال إعادة قراءة نفس النص المكتوب .. لكن مع توليد معاني جديدة تماما .. ربما لم تخطر على بال الكاتب الأصلي .. للبوست والتويت. هذه الطريقة الجديدة في توليد المعاني .. يسهم فيها القاريء عبر الفيس يوك والتويتر .. ربما بأكثر من إسهام الكاتب .. هذه الحرية القرائية الجديدة القادرة على توليد المعاني البديلة التي لم يقصدها الكاتب .. ربما تكون مبعث إندهاش وصدمة لدى أغلب الكتاب والقراء المعتادين والمتمسكين بالوضعية الهامشية للقاريء .. بصفته مجرد مهلل للكاتب .. أو بصفته مجرد رافض له .. فهذه الوضعية الهامشية المتلقية في اتجاه واحد حصري للقاريء .. ترفض ممارسة حرية القراءة الفاعلة في اتجاهين .. فهي وضعية غير معتادة ومستغربة .. بل وربما مدانة ومرفوضة لدى قراء وكتاب لم يعتادوا في ثقافتهم القرائية والكتابية .. مشاركة الكاتب في توليد معاني بديلة وجديدة من ذات النص. فهذه الوضعية القرائية الجديدة .. التي تعرف حاليا باسم وضعية التلقي ونظرية الاستقبال .. أصبحت تستدعي من القاريء ممارسة القراءة بصفته إنسان مكتمل الوعي وقادر على فهم النص بطريق جديدة تماما. وتختلف الطرق القرائية الجديدة تماما عن طريقتي التهليل والتسفيه المعتادتين في القراءة القديمة. ففي طريقة التصفيق القديمة المعتادة .. يكتفي القاريء .. بدور الألة الموسيقية الخافتة المصاحبة للكاتب بصفته المغني الأوحد .. الذي لا صوت يعلو فوق صوته .. والذي يعد النص بالنسبة له بمثابة مجرد ترجمة أحادية لصوت الكاتب الخالد. كذلك تختلف الوضعية القرائية الجديدة هذه أيضا عن الطريقة التقليدية الطرفية الأخرى والتي تتمثل في تسفيه كل نص يكتبه الكاتب، والتي تقوم على رفض النظر في ممكنات توليد معاني بديلة من ذات النص بشكل يتحيز لقراءة أحادية له ترفضه بمجمله وبطريقة تعجز عن أن ترى في النص أي ممكنات مستقلة عن الكاتب قادرة على توليد معاني بديلة عن تلك المعاني المباشرة التي يظن القارئ أن الكاتب قد وضعها وصبها صبا داخل النص. وكأني بالقاريء هنا يظن النص مجرد وعاء لا وجود مستقل له في حد ذاته. وكأنه ليس أكثر من مجرد أداة تابعة لا قيمة لها، بل فقط تعمل كموصل هامشي لنقل معني وحيد ومباشر وثابت ومحدد وأحادي وموجود بشكل مسبق داخل نفس الكاتب بحيث أن مهمة القاريء لا تتجاوز عملية الاستقبال السلبي لهذا المعني الأحادي، بحيث يتصرف القاريء بعد عملية الاستقبال السلبي هذه، وكأنه سطح طبل خاوي ينقرع رفضا وضجيجا أو تهليلا وطربا دونما أدنى مشاركة أو مساهمة واعية في توليد مسارات جديدة للمعزوفة الأحادية الخالدة التي يحتكرها الكاتب وحده. هذه الوضعية القرائية القديمة والتقليدية بمساريها التهليلي والتسفيهي للمعاني المباشرة الأحادية التي ينتجها الكاتب والتي تهمش دور القاريء .. بينما تعظم دور الكاتب الاستبدادي .. على حساب دور القاريء الخاضع للاستبداد والاستقبال السلبي للمعاني الأحادية المباشرة .. هي بالضبط الوضعية التي أصبحت تتعرض حاليا لتغيير جذري .. فتنتج أنماطا جديدة من القراءة تتسع فيها أدوار القراء .. بحيث تتحرر من الوضعية الهامشية التي كانت محبوسة داخلها طوال تاريخنا البشري بمجمله حتى الآن.