للدكتور معتز بالله عبد الفتاح مقال بعنوان : " ماذا لو كان «مرسى» غير إخوانى؟" يستحق التوقف عنده ومناقشته .. وأودّ أولا أن أقرر أننى أنظر إلى هذا الكاتب الجاد نظرة تقدير واحترام لأسباب أهمها أنه من الكتاب القلائل الذين يثرون فكرهم بالقراءة.. ولكنى مع ذلك لا حظت فى مقالاته الأخيرة إنزلاقا نحو الأفكار الشائعة وانحرافا مع النقد الذى تجترُّه قبيلة من الكتاب ضد الرئيس مرسى وجماعة الإخوان المسلمين.. بتحيز لا منطق فيه.. الهدف من مقالته كما يوضح لنا هو تقييم أداء الرئيس محمد مرسى فى الحكم.. ولكي ينفى عن نفسه تهمة التحيُّز ضده قال : "تعالوا نتخيل أن الدكتور مرسى ليس إخوانيًّا ، بل دعونا نقول إنه ليس رئيسًا لمصر.. وإنما هناك شخص فى مكان ما من العالم وعد بالوعود التالية، وبعد عام سُئل الناس عن تقييمهم لأدائه.." هذا الافتراض التجريدي -فى حقيقة الأمر- هو الذى أوقع الكاتب فى خطأ جسيم ؛ وهو خطأ منهجي خطير.. لم أكنْ لأُعنَى به لو أنه لم يصدر من أستاذ بالجامعة.. المفروض أنه يعرف و يمارس المنهج العلمي: فأنت هنا أمام حالة معيّنة محكومة ببيئتها وظروفها الخاصة: التاريخية- الاجتماعية - السياسية- الاقتصادية، وحتى النفسية.. ولا بد أن الدكتور معتز يعلم أن "دراسة الحالة" يجب أن تكون فى إطار مُحدِّداتها .. كما يعلم أنه كلما تحرّينا الدقة فى الدراسة والحكم لَزِمَنَا أن نضع لكل واحد من هذه المحدِّدات أوزانا نسبية لنرى إلى أي مدى تساهم فى تشكيل هذه الحالة .. ولذلك أقول للدكتور معتز من باب النصيحة الأخوية: إن اختياره "التشخيص بالاستبعاد" Diagnosis by exclusion كوسيلة لاختبار صحة العلاقة السببية –هنا- اختيار خاطئ وتطبيقها على هذه الحالة خطأ أكبر.. وما دام المقترب المنهجي خاطئًا فلابد أن نصل إلى نتائجَ وأحكام خاطئة.. وبيان ذلك -كما نراه- فيما يلى: يسرد المقال خمسة عشر من المعطيات يسميها وعودًا [للدكتور مرسى] أو بالأحرى للرئيس التجريدي الذى افترض وجوده فى موقع غير محدد بالعالم.. ثم ينتهى بمجموعة من الأسئلة (الاستنكارية) حتى يتجنّب الوقوع فى مآخذ تعرِّض مصداقيته للشكوك.. ربما أهم سؤال طرحه هو : " أسوأ ما فى أداء الرئيس هو أنه لم يقدم حتى الآن تفسيرًا يوضح فيه ماذا حدث..؟ لماذا وعد كثيرا، ولم يفِ إلا بالقليل..؟" السؤال بهذه الصيغة يوحى للقارئ بأن الأداء سيئ.. يعزز هذا بقية الأسئلة الاستنكارية التى تلته فى آخر المقال.. من أبرز الوعود التى جمعها الكاتب فى مقالته: - إعادة الأمن والاستقرار، ضبط المرور، توفير الوقود، تحسين رغيف العيش، وحل مشكلة القمامة.. والسؤال هو: هل غاب عن وعي الكاتب ما استطاعت حكومة هشام قنديل ووزير التموين تحقيقه فى هذا المجال..؟ وفى الوقت نفسه هل غاب عن وعيه المحاولات المستميتة التى تبذلها قوى الثورة المضادة .. التى تهرّب البنزين والسولار أوتلقى به فى الصحراء والمجارى لإحداث قصور فى الإمدادات التى توفرها الحكومة..؟! ألم يسمع بمنزل فى الدقهلية اشتعلت فيه حرائق مرروّعة بسبب كميات البنزين الهائلة المخزّنة فيه لتهريبها وبيعها فى السوق السوداء..؟ كم منزل آخر فى أنحاء الجمهورية يخزّن فيه المهربون السلع لبيعها فى السوق السوداء من وراء ظهر الدولة..؟ ألم تسمع أن جانبا كبيرا من قيادات الشرطة لا يزال على ولائه القديم لنظام مبارك ولا يستجيب للنظام الجديد.. وأن فساد الأمن يرجع إلى هذه القيادات الكارهة المتقاعسة.. بل المتواطئة مع المهربين والفوضويين والبلطجية الذين يتحكمون فى الشوارع ويقطعون الطريق..؟ ألم تسمع أن مصر فى هذا العام (عام مرسى فى الحكم) قد أنتجت قمحا يزيد عن انتاجها فى كل العهود السابقة.. وأن هناك من كان له بالمرصاد.. فأشعل فيه الحرائق حتى لا يقال أن مرسى قد نجح فى جهوده لتحقيق الاكتفاء الذاتي الذى يحلم به المصريون منذ عقود طويلة..؟! هذا الكلام ينطبق على جميع البنود الأخرى التى وردت فى المقال ومنها: - مؤسسة الرئاسة وتشكيلها .. وتشكيل حكومة ائتلافية موسعة من القوى الوطنية المختلفة والكفاءات، يختار رئيسها على أساس الكفاءة وبالتوافق مع البرلمان ولا يمثل حزب الحرية والعدالة فيها الأغلبية.. وأسأل ألم يفعل الرئيس ما وعد به .. أو حاول أن يفعل فنجح فى جوانب وأخفق فى جوانب أخرى؛ لا عن سوء قصد منه ولا عن تقصير من جانبه..؟ ولكن لأن القوى الأخرى عملت على إفشال جهوده .. وقد أعلن بعضهم (صباحى مثلا) من البداية عداوة سافرة عندما صرَّح بأنه لن يستجيب لدعوة المشاركة فى السلطة وأنه ملتزم بالبقاء فى المعارضة.. آملا فى سقوط سريع لهذا الرئيس.. فيحل هو محله .. فكيف تستطيع أن تقنع شخصا كهذا أن يتخلى عن المعارضة والمعاندة، ليشارك فى حكم يريد هدمه والتسلق على أنقاضه..؟! وحتى الذين اختارهم الرئيس مساعدين ومستشارين فى مؤسسة الرئاسة وقبلوا دعوته سرعان ما تعرضوا لهجمات عاتية من الإعلام وضغوط رهيبة من كل اتجاه: على الأعضاء المسيحيين.. من الكنيسة لإجبارهم على الانسحاب.. وبعضهم دخل على وهم أنه إذا قال شيئا فلا بد أن يسمع الرئيس وينفذ.. أو أنه لا بد أن يُستشار فى كل كبيرة أو صغيرة من قرارات الرئيس وأعماله وحركاته.. ولم يصبر على محنة المهمة الجديدة أمام الضغوط العاتية فآثر أكثرهم الانسحاب من قريب.. تخاذل وخذل الرئيس.. مدركا أو غير مدرك..! لا يهم.. المهم أن يفلت بجلده من قصف الإعلام و تعيير الأصدقاء والزملاء فى الصحافة والجامعة ودوائر النشاط الأخرى..! - زيادة معاش الضمان الاجتماعى ومضاعفة المستفيدين منه.. وتخفيف عبء الضرائب.. مما يعنى إسقاط الضرائب كلِّيّة عن مليون ونصف المليون أسرة.. وأسال: ألم يعمل الرئيس فى هذا الاتجاه أم أنه نكص عنه..؟ أقصد أن ما كان بيد الرئيس من صلاحيات قد فعّلها .. أما ما تبقّى فالمفروض أن تتكفَّل به القوانين.. المنوطة بمجلس الشعب .. ومجلس الشعب -كما تعرف- قامت المحكمة الدستورية بإلغائه.. وألغت مشرع قانون الانتخابات الجديد الذى صدر من مجلس الشورى.. وألغت الموعد الذى حدده الرئيس للانتخابات القادمة.. وكانت بالمرصاد لمجلس الشورى.. فأصدرت قرارا يستهدف إصابة المؤسسة التشريعية الباقية بالشلل التام .. والمعارضة تنظر سعيدة شامتة.. و كأن ما يحدث مسرحية هزلية تجرى فى "بوركينا فاسو" وليس فى مصر.. هل تعتقد يا دكتور معتز أن هذا وضع طبيعى يمكن أن يتم فيه إنجاز..؟! - زيادة الرقعة الزراعية مليون ونصف مليون فدان وإسقاط الديون الزراعية عن الفلاحين.. وتوفير أكثر من 700 ألف فرصة عمل سنويًّا.. هنا أيضا ينطبق التعليق على البنود السابقة فهناك عمل وتوجُّه نحو تحقيق هذه الغايات .. ولكن هل يتوقع أحد أن يتم كل هذا فى عام واحد..؟ إن أمريكا العظمى بقدراتها الاقتصادية الهائلة لا تستطيع أن توفر سبعمائة ألف فرصة عمل سنويا.. و لكن مصر بإمكاناتها المحدودة يمكن أن تحقق المعجزة.. بشرط أن تتهيّأ لها ظروف الاستقرار.. وأن تعود ماكينة الإنتاج للعمل بكامل طاقتها.. أليس مشروع تنمية القناة وامتداداته فى سيناء أحد هذه المشروعات العملاقة..؟! أم ينبغى أن نحاربه لأنه كما تصوره المعارضة والإعلام للناس محاولة لبيع قناة السويس للأجانب..؟! هناك إذن خطط ومشروعات جادة مصمّمة لتحقيق تنمية حقيقية.. وقفزة اقتصادية غير مسبوقة.. ولكن هناك فى الوقت نفسه معوِّقات لم يكن لعبقري فى العالم أن يتوقَّعها.. هذا الكلام ينطبق أيضا على: - "زيادة الإنفاق على الصحة.. وزيادة المستفيدين من التأمين الصحى، والاهتمام بذوى الاحتياجات الخاصة .. و تخفيف أعباء الأسرة المصرية فى نفقات التعليم.. وتطوير التعليم والبحث العلمى.. وتحسين أوضاع المعلمين وأساتاذة المعاهد والجامعات.. و حماية حق المرأة فى العمل والمشاركة الكاملة والفعالة فى المجتمع.. وإصلاح هيكل أجور العمال والحرفيين.. وتيسير إجراءات الترخيص... وغيرها... أقول: التوجُّه قائم والعمل الحكومي يضع هذه الأهداف كلها فى حساباته ولم يتراجع الرئيس عن وعوده إزاءها.. تنفِّذ الحكومة منها ما فى وسعها بمواردها المتاحة.. وتتوسع فىيها بقدر ما تزداد مواردها.. وهذا أقصى ما يتمناه شعب من حكومته.. فليس فى الحكومة لصوص يسرقون الموارد .. ولا طبقة حاكمة مستغلة تحتكر عائدات التنمية لصالحها دون بقية الشعب؛ كما حدث دائما فى الماضى.. ومن ثَمّ فالحديث عن سوء أداء هنا هو حديث خرافة.. - الوعد ب "عدم المساس بحرية الإعلام أو قصف قلم أو منع رأى أو إغلاق قناة أو صحيفة .. مع مراعاة القانون وميثاق شرف المهنة فيما بين الإعلاميين.. " ربما لزم التنويه هنا.. بأن الرئيس التزم بوعده إلتزامًا كاملا وزيادة.. ولكن يأخذنا العجب و تستغرقنا الدهشة من سلوك إعلام معاند لا يعبأ بالقانون.. وليس له ميثاق شرف يلتزمه.. ولا يوجد له أصلًا شرفٌ ولا أخلاق ولا يلتزم بحرفية المهنة.. ولذلك يبدو الرئيس عاجزًا حتى عن حماية نفسه وعرضه من السفهاء والكلاب الناهشة النابحة.. 24 ساعة على مدار الليل والنهار، فى الفضائيات والصحافة.. فهل لدى الدكتور معتز تفسير لهذا.. وهل لديه علاج..؟! أشك فى هذا لأن الإعلام المعاند المنفلت اللاأخلاقيّ ليس إلا جزءًا من منظومة شبكيةٍ متكاملة متساندة، من الفساد الضالع، الذى صنعه مبارك ورسّخه على مدى ثلاثين عامًا.. فى كل مؤسسات الدولة.. شاملا: للقضاء والأمن والإدارة... ولذلك لم نندهش أن يخفق الرئيس حتى هذه اللحظة فى تحقيق أكبر أهدافه وهو القصاص العادل لدماء الشهداء ولأهالى الشهداء والمصابين الذين سقطو أو أصيبوا خلال الثورة.. بعد أن دمر جهاز مباحث أمن الدولة جميع الأدلّة ولا يزال القضاء المعاند إلى اليوم يبرِّئ المتهمين من دماء القتلى والمصابين.. ولا يستطيع أحد أن يلقى باللوم على الرئيس فى قضية القصاص؛ فقد فعل الرجل كل ما فى وسعه .. حيث قام بتشكيل لجان متخصصة من أخلص العناصر القضائية للبحث عن أدلّة جديدة لإعادة محاكمة المتهمين.. وشكّل النائب العام الجديد فريقًا من الخبراء لفحص هذه الأدلة .. بمعنى أن الموضوع قد أصبح فى حوزة القضاء وليس من صلاحيات رئيس الدولة أن يتدخل فى الأمر.. والخلاصة: أن افتراض انتزاع الدكتور مرسى عن حقيقة انتسابه للإخوان المسلمين ، وعن الظروف المكانية والزمانية التى يعمل فيها [وأعنى بذلك مصر ما بعد الثورة].. إفتراض خاطئ منهجيًّا: فلا يمكن بهذا العزل الوصول إلى تقييم صحيح لأدائه .. لسبب بسيط وهو أن الهجوم عليه والمؤامرات التى تحاك ضده لتعويقه ومحاصرته.. ولإفشاله بل وإسقاطه ليست إلا بسبب اعتباره إخوانيًّا إسلاميا.. وكل أعدائه سواء كانوا فى الداخل أو الخارج متآزرون ضده على هذا الأساس.. ولم يكن ليتم هذا إلا فى بيئته المحلية وأعنى بذلك مصر بعد الثورة بكل ماورثته من نظم الحكم السابقة.. على النحو الذى أوضحناه.. وبكل ما تمثِّله من خطر على القوى الإمبريالية الصهيونية إذا نجح المشروع الإسلامي فيها.. لقد تم دمْغ جماعة الإخوان المسلمين فى الماضى بأنها " الجماعة المحظورة" ووصْفها الحقيقي الآن ليس كما يدّعى الإعلام بأنها "المحظوظة" بل " الجماعة المحسودة المغبونة.. المغدور بها .. التى يحاول الجميع وأْدها.." ولكى نكون منصفين أقول للدكتور معتز: لقد كانت أسئلتك الإستنكارية كلها فى غير محلِّها لأنك كنت تستطيع بقليل من التحليل أن تصل إلى الإجابات الصحيحة لها بشرط أن تتخلَّى عن خطئك المنهجي الذى عطّل مواهبك وجعلك تشطح بعيدا عن الحقيقة.. [email protected]